
منذ أن اختطف العسكر القرار السياسي في الجزائر، تحولت وزارة الخارجية من مؤسسة سيادية تُعنى بصياغة السياسة الدولية للبلاد إلى مجرد ملحقة تابعة لثكنة، تُنفذ التعليمات لا أكثر. فالدبلوماسية الجزائرية اليوم لا تمتلك لا المبادرة ولا الرؤية، بل صارت أداة أخرى ضمن ترسانة النظام العسكري، تُوظف في حملات التشويش والمناورة، وتُستهلك في معارك خاسرة سلفا، وفي مقدمتها معركة الصحراء المغربية.
في 30 أبريل المنصرم، استقبل عبد المجيد تبون وزير خارجية جمهورية غانا، في محاولة فاشلة للتظاهر علنا بأن قرار اكرا التاريخي الذي اتخذ بداية السنة الجارية والقاضي بسحب الاعتراف بالجمهورية الوهمية لن يوثر على العلاقات الجزائرية الغانية، لكن الحقيقة ان العسكر امروا تبون بالضغط على وزير الخارجية الغاني كي تتراجع بلاده عن خطوتها.
لم يستوعب المعين بقصر المرادية وفريقه ان خطوة غانا تنم عن قرار استراتيجي مدروس بعناية، لن يستطيع العسكر فهم حيثياته.
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في هذا القرار فحسب، بل فيما تلاه من إعلان صريح من الرباط، على لسان وزير الخارجية الغاني نفسه، بدعم بلاده لخطة الحكم الذاتي المغربية تحت سيادة المملكة على أقاليمها الجنوبية. إعلان جاء ليضع الجزائر، وبالأخص دبلوماسيتها العسكرية، في زاوية حرجة، بعد أن كانت تروج لعلاقات “ممتاز” مع دول غرب إفريقيا.
ما حدث مع غانا ليس استثناء، بل هو امتداد لسلسلة من المواقف الدولية المتغيرة التي أخذت تتقاطر من جميع القارات، تعبيرا عن اقتناع عميق بعدالة قضية المغرب وسيادة الرباط على صحرائها. لكن الجزائر، وفي ظل دبلوماسية يقودها العسكر، لم تفلح في مواكبة هذه المتغيرات، ولم تجتهد حتى في فهم أسباب هذا التحول في مواقف الدول.
دبلوماسية خارج العصر
أمام هذا المشهد المتغير، تبرز الدبلوماسية الجزائرية كواحدة من أكثر الآليات الرسمية عجزا وانفصالا عن الواقع. فبدلا من التفاعل الذكي مع التحولات الجيوسياسية، ما تزال الجزائر تُدار بدبلوماسية الضجيج، حيث يهمها أولا وأخيرا ما يُتداول على فيسبوك وتويتر، أكثر مما يحدث في كواليس الأمم المتحدة أو في مراكز صنع القرار الدولي.
دبلوماسية تحولت إلى مجرد “صفحة فايسبوكية رسمية”، تطغى على بياناتها الأخطاء اللغوية والنحوية، وتنضح بالارتجال واللغة التعبوية الفارغة. بدل أن تكون أداة للنفاذ الناعم إلى العواصم المؤثرة، أصبحت الدبلوماسية الجزائرية عبئا على البلاد، تُكرر خطابا قديما بلغة خشبية، لا تُقنع أحدا سوى حفنة من المصفقين في الإعلام الرسمي.
لا تُمارس الدبلوماسية الجزائرية اليوم العمل السياسي الخارجي كما تفعل وزارات الخارجية في الدول ذات السيادة، بل تتحرك وفق أجندة إعلامية موجهة للرأي العام المحلي فقط. واضحت بيناتها خالية من مضمون سياسي رصين أو لغة دبلوماسية متزنة.
لم تعد الوزارة قادرة على قراءة السياق الدولي، ولم تطور أدواتها، ولا كوادرها. فهي تعتمد على أسماء مستهلكة، تتقن الخطابة أكثر من التفاوض، وتحسن الصراخ أكثر من الإقناع. لقد ماتت “الدبلوماسية” في الجزائر منذ ان تمت عسكرتها، فأقصت الكفاءات، وأُسندت الملفات السيادية إلى جنرالات يرون في كل مبادرة تهديدا، وفي كل تقارب خيانة، وفي كل نجاح دبلوماسي مغربي “مؤامرة دولية”.
قنوات العسكر: إعلام الهزائم المظفرة!
الطامة الكبرى لا تكمن فقط في المضمون السياسي للدبلوماسية الجزائرية، بل في الطريقة التي يتم بها تحليل الفشل وتقديمه للرأي العام المحلي. فالقنوات التابعة للمؤسسة العسكرية باتت أشبه بآلة دعائية تُحول كل نكسة إلى نصر، وكل انسحاب إلى تكتيك، وكل اعتراف بالصحراء المغربية إلى “سوء فهم سيتم تصحيحه لاحقا”.
في هذه القنوات، لا وجود لما يُسمى النقد الذاتي أو قراءة موضوعية للواقع. بل هناك فقط رواية موحدة تُقدم للمشاهد: العسكر على صواب دائما، والدبلوماسية الجزائرية تحقق “اختراقات”، بينما الحقيقة على الأرض تقول العكس تماما.
هو الخطاب ذاته الذي حول الجزائر إلى دولة لا تصدق إلا روايتها، ولا تحترم إلا صدى صوتها. خطاب يحول الواقع إلى مسرحية دعائية، والخيبات إلى “قرارات سيادية”، والعزلة إلى “ثبات على المبدأ“.
بين دولة ومليشيا دبلوماسية
الفرق اليوم واضح، المغرب يُدير ملفه الدولي بعقل دولة، يُراكم الإنجازات ويُقنع العواصم الكبرى بخطته الواقعية.
الدبلوماسية المغربية بتوازن وهدوء، تسجل نجاحات مدروسة، وتُراكم الاعترافات والدعم لخطتها للحكم الذاتي، دون صخب، ودون أن تتورط في معارك إعلامية لا طائل منها. إنها دبلوماسية تستند إلى رؤية استراتيجية شاملة، وليس إلى الأهواء الفيسبوكية أو ضجيج الإنكار.
بينما الجزائر تُدير ملفاتها بمنطق مليشيا دبلوماسية لا تؤمن إلا بالصدام، ولا تعرف لغة الحوار، ولا تفهم أن العالم تغير، وأن الدعم للكيانات الانفصالية انتهى زمنه.
ما يجري اليوم ليس سوى ثمرة سنوات من سوء الإدارة الدبلوماسية في الجزائر، دبلوماسية لم تُحدث أدواتها، ولم تتأقلم مع العالم الجديد، ولم تُدرك أن لغة العقيدة الجامدة لم تعد تُقنع أحدا في عالم المصالح المتشابكة.
إن تحويل وزارة الخارجية الجزائرية إلى “ثكنة دبلوماسية” لا يمكن إلا أن ينتج سياسة خارجية مفلسة، محكومة بالفشل، وعاجزة عن بناء أي نفوذ حقيقي. ومادام العسكر هم من يكتبون بياناتها ويحددون توجهاتها، فإنها ستبقى تلهث خلف المتغيرات بدل أن تسبقها، وستواصل السقوط في كل ساحة دولية، تماما كما حدث مع غانا… وكما سيحدث مع دول أخرى.
✍🏼وليد كبير