
في عمق الجبال المحصنة جنوب طهران، وتحت طبقات سميكة من الصخور والإسمنت، تختبئ منشأة “فوردو” النووية، التي تُعد اليوم العقدة الأصعب في أي خطة لتدمير البرنامج النووي الإيراني. هذه المنشأة، التي بُنيت عمدا في جوف الأرض، بعد الدرس العراقي القاسي في مفاعل “تموز” النووي عام 1981 والذي دمرته المقاتلات الاسرائيلية بسهولة، تمثل جوهر المعضلة التي تواجهها إسرائيل والغرب في مساعيهم لشل قدرة إيران على إنتاج السلاح النووي.
سلاح واحد قادر على الاختراق… وواشنطن ترفض تسليمه
بحسب تحقيق تحليلي نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فإن منشأة “فوردو” محصنة لدرجة لا تستطيع أي قنبلة تقليدية الوصول إليها، باستثناء قنبلة واحدة فقط موجودة في الترسانة الأمريكية: القنبلة الخارقة للتحصينات (Bunker Buster) من طراز GBU-57، والتي يبلغ وزنها 30 ألف رطل وطولها 20 قدما، وتُطلق حصرا من قاذفة الشبح الأميركية B-2.
تمتاز هذه القنبلة بغلاف فولاذي كثيف يجعلها قادرة على اختراق طبقات من التربة والخرسانة قبل أن تنفجر، ما يتيح لها تدمير منشآت مخفية في أعماق الأرض. لكنها سلاح محظور على الحلفاء، وعلى رأسهم إسرائيل، التي طالما طلبت الحصول عليه دون جدوى. فالإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء في عهد أوباما أو ترامب، رفضت تسليم تل أبيب هذا السلاح، خشية أن يدفعها ذلك لشن ضربة استباقية قد تشعل المنطقة بأكملها.
هل تستطيع إسرائيل التحرك بمفردها؟
يُجمع خبراء عسكريون على أن إسرائيل، رغم تفوقها التكنولوجي، لا تمتلك حاليا القدرة على تدمير “فوردو” بشكل مباشر. فلا طائراتها قادرة على حمل القنبلة الأمريكية العملاقة، ولا ترسانتها تضمّ سلاحا موازيا لها في القدرة التدميرية تحت الأرض.
لكن هذا لا يعني أن الأيدي الإسرائيلية مكبلة تماما. فوفق مصادر عسكرية تحدثت لـنيويورك تايمز، تملك إسرائيل القدرة على استهداف البنية التحتية التي تعتمد عليها “فوردو”، خصوصا محطات توليد الكهرباء وشبكات الإمداد، ما قد يشل تشغيل أجهزة الطرد المركزي المتطورة الموجودة داخل المنشأة. إنه خيار غير نهائي، لكنه قد يمنح الوقت للضغط الدبلوماسي أو لعمليات مستقبلية أكثر حسما.
الطموح النووي الإيراني: من السرية إلى العتبة العسكرية
في مارس 2023، كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مفتشيها رصدوا في “فوردو” يورانيوم مخصبا بنسبة 83.7%، أي أقل بقليل من عتبة 90% المطلوبة لصناعة قنبلة نووية. ورغم نفي طهران نيتها تطوير أسلحة نووية، إلا أن قرب النسبة يثير قلقا بالغا في العواصم الغربية وتل أبيب على حد سواء.
خطط إسرائيلية غير تقليدية: من الجو إلى الأرض
لم تكتفِ إسرائيل بالتفكير في القصف الجوي. فقد عرضت في وقت سابق على إدارة أوباما خطة جريئة تتضمن إنزالا بريا بواسطة مروحيات تحمل قوات خاصة لتدمير المنشأة من الداخل. وهي عملية تشبه، من حيث الجرأة، ما نفذته إسرائيل العام الماضي في سوريا ضد منشأة تابعة لـ”حزب الله”. ومع ذلك، تبقى “فوردو” هدفا أكثر تعقيدا وتحصينا، حتى باعتراف الجنرال الأمريكي السابق كينيث ماكنزي الذي قال إن “فوردو تظل هدفا بالغ الصعوبة”.
الرسائل الإسرائيلية: لسنا عاجزين
في مقابلة تلفزيونية حديثة، لمح السفير الإسرائيلي لدى واشنطن يحيئيل ليتر إلى وجود “خيارات بديلة” يمكن أن تمكن إسرائيل من التعامل مع “فوردو” دون قصف مباشر من الجو. التصريح بدا مقصودا لإرسال رسائل ردع مزدوجة إلى طهران وواشنطن معا: إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي تحتفظ ببدائل قد تكون سرية أو غير تقليدية.
فوردو ليست مجرد منشأة… إنها اختبار استراتيجي
منشأة “فوردو” ليست فقط عقدة عسكرية تحت الأرض، بل أيضا ورقة ضغط سياسية وأمنية. فهي تمثل أقصى ما يمكن لإيران أن تفعله لحماية برنامجها النووي، لكنها في الوقت نفسه تحد مفتوح أمام إسرائيل وحلفائها. وكل تأجيل في حسم هذا الملف يعمق الغموض حول لحظة الانفجار المقبلة: هل ستكون عبر طائرة شبح، أم من خلال عملية كوماندوز خاطفة، أم عبر ضغط دولي طويل النفس؟
ما هو مؤكد حتى الآن، هو أن منشأة “فوردو”لا تزال صامدة… لكن لأجل غير مسمى.
