الجزائر بين عزلة متزايدة وفشل داخلي وخارجي: عندما تجلد “فاينانشيال تايمز” النظام الاستبدادي في شمال أفريقيا

في مقال لاذع نُشر مؤخرا على صفحات فاينانشيال تايمز البريطانية، تسلط الصحيفة واحدة من أبرز المؤسسات الإعلامية الاقتصادية العالمية الضوء على التدهور المتسارع الذي يعيشه النظام الجزائري، سياسيا واقتصاديا، في سياق إقليمي مضطرب وتغيرات دولية عميقة. المقال لم يكن مجرد تحليل خارجي بارد، بل بمثابة جلد ناعم للسلطة في الجزائر، التي ظهرت وفق توصيف الصحيفة كنظام استبدادي يعاني من عزلة خانقة وفشل في التكيّف مع المتغيرات الجيوسياسية شمال أفريقيا.
منارة التحرر تتحول إلى جزيرة عزلة
في ستينيات القرن الماضي، كانت الجزائر رمزا لحركات التحرر العالمية، ووجهة للمناضلين من فيتنام إلى أمريكا اللاتينية. لكن هذه الصورة الثورية التي تغنت بها الأجيال السابقة، تبددت اليوم لصالح واقع قاتم: نظام عسكري ديكتاتوري، يتحصن خلف شعارات قديمة، بينما تتهاوى من حوله ركائز السياسة، وتتآكل شرعيته داخليا وخارجيا.
ففي خضم تطورات متسارعة، وجدت الجزائر نفسها محاصرة بدبلوماسية مهزومة، حيث انحازت ثلاث من القوى الكبرى في مجلس الأمن الولايات المتحدة، فرنسا، والمملكة المتحدة إلى خطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء، تاركة النظام الجزائري في موقع “الهامش الجيوسياسي”، على حد تعبير المحلل ريكاردو فابياني من مجموعة الأزمات الدولية.
قرار بريطانيا الأخير بدعم الطرح المغربي لم يكن مجرد موقف دبلوماسي عابر، بل شهادة دولية جديدة على أن الجزائر، بسياساتها المتصلبة، فقدت القدرة على التأثير في مراكز القرار العالمية. الأمر الذي يكرس وفق فاينانشيال تايمز عزلة سياسية غير مسبوقة لدولة كانت تُحسب إلى وقت قريب في خانة اللاعبين الإقليميين الكبار.
اقتصاد على حافة الإفلاس
الصحيفة لم تكتف بالنقد الدبلوماسي، بل أماطت اللثام عن هشاشة البنية الاقتصادية الجزائرية، التي لا تزال قائمة على نموذج ريعي بدائي، يعتمد بشكل شبه كامل على صادرات النفط والغاز. في وقت تتجه فيه دول الجوار إلى تنويع اقتصاداتها، وبناء شراكات استراتيجية، لا تزال الجزائر رهينة تقلبات السوق العالمية، وفاقدة لأي رؤية اقتصادية مستقلة أو إصلاح هيكلي حقيقي.
أخطر ما في الأمر، أن خط الغاز النيجيري–المغربي، الذي يستهدف السوق الأوروبية، يُهدد بتقويض أحد آخر أدوات الضغط الجزائرية في الإقليم: الغاز. فالجزائر، بدل أن تدخل شراكات اقتصادية كبرى، انغمست في خطاب عدائي، يتحدث عن “الدويلات المصطنعة” و”أموال الخراب”، في إشارة إلى دولة الإمارات التي تفوقت عليها في بناء تحالفات استراتيجية على أكثر من جبهة.
من خطاب المبادئ إلى الانتحار الدبلوماسي
في حين تبنت دول كالمغرب والإمارات نهجا براغماتيا قائما على المصالح والتحالفات الذكية، لا تزال الجزائر متمسكة بخطاب مبدئي جامد، لا يتناسب مع واقع متغير ومعقد. تمسكها بالقضية الصحراوية ورفضها أي حل سياسي واقعي جعل منها خصما معلنا لأي مبادرة سلمية.
ورغم أن دعم تقرير المصير يعتبر في نظر كثيرين قيمة نبيلة، إلا أن تعنت الجزائر، وفق تحليل فاينانشيال تايمز، تجاوز المبادئ إلى العزلة، حيث فشلت في تحويل هذا الموقف إلى ورقة تفاوض دولية، واكتفت بالشعارات بدل التأثير.
تصدع في العلاقات مع الحلفاء القدامى
الأكثر دلالة على انحدار الدور الجزائري، هو تدهور علاقاتها حتى مع الدول التي كانت تُعتبر صديقة، وعلى رأسها فرنسا. من سحب السفير، إلى تعليق التعاون الأمني والمهاجري، إلى سجن الروائي الفرنسي-الجزائري بوعلام صنصال، تراجعت العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوياتها منذ الاستقلال.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حاول في بداياته إعادة صياغة العلاقة مع الجزائر، أغلق هذا الملف في يوليو 2024 مع إعلان فرنسا اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، بعد أن وصف تقاربه السابق مع تبون بالفاشل. ولعل أخطر ما ورد في المقال هو التحذير الفرنسي من مراجعة اتفاق 1968 الذي يسهل تنقل الجزائريين إلى فرنسا، وهي خطوة إن تمت، ستكون ضربة موجعة للنظام الجزائري ولشريحة واسعة من المجتمع.
الديكتاتورية تُفقد الجزائر أصدقاءها
في مشهد يلخص المأساة، تصف فاينانشيال تايمز النظام الجزائري بأنه “استبدادي مدعوم عسكريا”، يواجه خصوما أقوياء وأصدقاء غاضبين، ويتخبط بين خطاب ثوري تجاوزه الزمن، وواقع داخلي مأزوم، ونظام سياسي لا يحسن فن التفاوض ولا إدارة الأزمات.
فهل تراجع الجزائر خطابها العدائي وتلتحق بركب الواقعية السياسية؟ أم تستمر في نهجها الانعزالي حتى السقوط؟
الجواب قد لا يتأخر كثيرا، فالوقت وفق المؤشرات لا يعمل لصالح النظام.