الرأيسياسة
أخر الأخبار

الجزائر وإيران: من وساطة السلام إلى شراكة الفوضى….قراءة في تاريخ العلاقات بين البلدين وتحولها من التهدئة إلى الاستثمار في مشاريع التقسيم وزعزعة الاستقرار

في كل منعطف مصيري مرت به منطقة الشرق الأوسط، كانت العلاقة بين الجزائر وإيران تظهر بصيغ متعددة: وساطة، اصطفاف، صداقة سياسية، ثم تحالف صامت يتقاطع مع مشاريع الانقسام وتمزيق وحدة العالم العربي والإسلامي. علاقة بدأت كدور دبلوماسي شريف، وانتهت إلى شراكة مضطربة تُغذي الفوضى وتُغلق أبواب الإصلاح والوحدة.

الوساطة بين الـشاه وصدام

البداية تعود إلى مارس 1975، حين لعبت الجزائر، بقيادة الرئيس هواري بومدين، دورا محوريا في إنهاء النزاع الحدودي بين العراق وإيران عبر “اتفاق الجزائر”. لقاء تاريخي جمع الشاه محمد رضا بهلوي وصدام حسين في العاصمة الجزائرية، وأنتج تسوية مؤقتة حول شط العرب.

هذا الدور عزز انذاك مكانة الجزائر كقوة دبلوماسية إقليمية محترمة. وبلغت ذروته بعد أربع سنوات، في نوفمبر 1979، حين اختارت واشنطن الجزائر كوسيط لتحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران. وبعد فشل عملية “مخلب النسر”، قاد الوزير الجزائري الراحل محمد الصديق بن يحيى مفاوضات شاقة انتهت في 19 يناير 1981 باتفاق يُنهي الأزمة، ويُفرج عن 52 رهينة بعد 444 يوما من الاحتجاز.

1982: نهاية دامية لمبعوث السلام

لكن هذا المجد الدبلوماسي انطفأ فجأة. ففي 3 مايو 1982، وخلال عودته من مهمة وساطة بين إيران والعراق، تحطمت طائرة الوزير بن يحيى فوق الحدود التركية–الإيرانية، بعد إصابتها بصاروخ. قُتل بن يحيى وثمانية من مرافقيه، في واقعة صادمة تبادل فيها الطرفان الاتهامات.

لاحقا، قدمت الجزائر أدلتها للرئيس الراحل العراقي صدام حسين، عندما بعث الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد وزيره للنقل انذاك صالح قوجيل الذي واجهه زعيم العراق بصمت بل وتركه وانهى المقابلة ولم يعترف بالمسؤولية بشهادته التي تم نشرها بصحيفة الشروق في 2016، واقترح تعويضا رفضته الجزائر. المفارقة أن بن يحيى كان قد نجا قبل ذلك بعام من حادث تحطم طائرة قرب مطار باماكو.

القطيعة: حين ساعدت إيران على تمزيق الجزائر من الداخل

الضربة الكبرى للثقة بين البلدين جاءت في تسعينيات القرن الماضي. مع تنامي صعود التيارات الإسلامية في الجزائر، ودخول البلاد في أتون الحرب الأهلية عام 1992، بعد الانقلاب الذي نفذه الجنرالات على الشرعية وإلغاء انتخابات 26 ديسمبر 1991 التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، انذاك اتهمت أجهزة الأمن الجزائرية إيران بدعم الإسلاميين بالأموال والتسليح.

وفي مارس 1993، قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع طهران. لم تكن القطيعة فقط سياسية، بل تعبيرا عن إدراك النظام الجزائري أن طهران ليست شريكا في السلام، بل راع للفوضى في نظره عندما تمس مصالحه.

استمر التوتر حتى 2001، حينها قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استئناف العلاقات، وزار إيران عامي 2003 و2008. واستقبل في الجزائر كلا من محمد خاتمي (2004) ومحمود أحمدي نجاد (2007 و2010). في تلك المرحلة، دافع بوتفليقة عن “حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية”، متجاهلا المخاوف الإقليمية من البرنامج النووي الإيراني.

شراكة خفية في دعم الفوضى والانفصال

لكن ما يجري خلف الكواليس أخطر بكثير. فبحسب تقارير متعددة، سمحت الجزائر لحزب الله – الوكيل الإقليمي لإيران – بالوصول إلى مخيمات تندوف وتقديم دعم فني ولوجستي لجبهة البوليساريو. وفي خطوة تصعيدية، تم تسليم المليشيا الانفصالية بصواريخ إيرانية من طراز “أراش” إلى الجبهة، استُخدمت في قصف مدينة السمارة المغربية بالصحراء، في أول استخدام ميداني لهذا النوع من السلاح في النزاع.

هجوم مباشر على أرض مغربية ذات سيادة، بتسهيل جزائري وسلاح إيراني، وبذراع لبنانية مسلحة… هل هذا ما بقي من مبادئ “عدم التدخل” التي تروج لها الجزائر؟ أليست هذه خيانة مزدوجة لوحدة شمال أفريقيا وللأمن الإقليمي العربي ولوحدة صف الامة؟

الجزائر… صوت إيران داخل جامعة الدول العربية

وفي ساحة السياسة العربية، لم تتوان الجزائر في الدفاع غير المباشر عن حلفائها الإيرانيين. ففي الاجتماعات الوزارية للجامعة العربية، تحفظت الجزائر على تصنيف ميليشيا الحوثي الذراع الإيرانية في اليمن كجماعة إرهابية، رغم الجرائم المروعة التي ارتكبتها بحق المدنيين واستهدافها دول الخليج بالصواريخ والطائرات المسيرة.

كان ذلك اصطفافا مفضوحا إلى جانب طهران، حتى وإن جاء على حساب الدم اليمني وقرارات الإجماع العربي. إنها السياسة التي لا تعترف بأمة موحدة، بل بمشاريع متداخلة تستند على الحقد والتفتيت.

حليف الأسد حتى آخر نفس… ثم السقوط

وفي سوريا، سارت الجزائر جنبا إلى جنب مع إيران في دعم نظام بشار الأسد، ووفرت له الغطاء السياسي الكامل في المحافل الدولية. حتى بعد سقوط النظام فعليا في 8 ديسمبر 2024، وانهيار دفاعاته في دمشق، وتمزق أجهزته الأمنية، ظل الموقف الجزائري يدافع عن “شرعيته” بحجة السيادة، بينما كان الملايين من السوريين يفرون من الموت، أو يُدفنون تحت أنقاض براميل الأسد المتفجرة.

تحالف ضد الشعوب وحقها في السلام والاستقرار

ما بدأ كوساطة سلام في سبعينيات القرن الماضي، تحول اليوم إلى تحالف غامض بين نظامين يتقاطعان في كراهية التغيير، ورفض الديمقراطية، واحتقار إرادة الشعوب. النظام الإيراني بطبيعته الثيوقراطية والمذهبية، والنظام الجزائري بطبيعته المغلقة والريعية، يجتمعان اليوم في مسار لا يخدم إلا الانقسام والانفصال والخراب.

لقد ساهم كلا النظامين، عبر أدوات مباشرة وغير مباشرة، في تأجيج الانفصال في المغرب، تمديد الحرب في اليمن، إدامة المأساة في سوريا، وزرع بذور الشك بين الشعوب العربية.

وإذا كانت الشعوب العربية تحلم بالوحدة والحرية، فإن تحالف الجزائر وطهران يسير في الاتجاه المعاكس تماما… تحالف على أنقاض الجغرافيا، فوق جماجم الأبرياء، وباسم مقاومة لا تنتج إلا الخراب.

مقالات ذات صلة