السلطان المولى الحسن الأول والصحراء الشرقية: الأرشيف الفرنسي يكشف بالحجة الدامغة مغربية توات والقورارة وتيديكلت وإن صالح

حين نعود إلى كتاب المؤرخ المغربي سعيد الصايغ «La France et les frontières Maroco-Algériennes 1873-1902»، الصادر عن منشورات CNRS الفرنسية، نجد أنفسنا أمام وثيقة علمية نادرة تكشف بالصوت والصورة – من قلب الأرشيف الفرنسي – تفاصيل الصراع المرير حول توات والقورارة وتيديكلت وإن صالح.
فالصفحات الممتدة من 66 إلى 78 من هذا المرجع، تسرد بدقة التقارير العسكرية والدبلوماسية الفرنسية، وتُظهر كيف ظل سكان الواحات أوفياء للسلطان العلوي، وكيف قاد السلطان مولاي الحسن الأول سياسة حازمة دفاعًا عن السيادة المغربية في وجه أطماع باريس. إن قوة هذا العمل لا تكمن في كونه رواية مغربية، بل في كونه شهادة من الوثائق الفرنسية نفسها، التي لم تستطع إنكار مغربية هذه الربوع.
لم يكن النزاع حول الصحراء الشرقية وليد اللحظة، بل هو ثمرة قرن من الأطماع التوسعية الاستعمارية الفرنسية، ومحاولة باريس المستميتة لفصل مناطق توات والقورارة وتيديكلت وإن صالح عن عمقها المغربي. غير أن أوثق الأدلة على مغربية هذه الربوع لم تأتِ من الرواية الوطنية المغربية فقط، بل من الأرشيف الفرنسي نفسه، الذي سجل بدقة تمسك الأهالي بالعرش العلوي ومقاومتهم لكل محاولات الاختراق الفرنسي.
ولاء الأهالي لسلطان المغرب
تكشف التقارير الفرنسية أن قبائل التواتيين والقصوريين والطوارق أعلنوا بيعتهم للسلطان، ورفضوا الخضوع لفرنسا. حتى حين حاول بعض الأعيان، مثل الحاج المهدي بن باجودة في عين صالح، مد اليد للفرنسيين طمعا في نفوذ محلي، انتفض الأهالي واتهموه بالخيانة، فاضطر علنا إلى رد الهدايا الفرنسية. بل إن الأرشيف الفرنسي نقل عبارته الشهيرة:
“أنا أخضع شخصيا وأكون خادمكم، أما الناس فلا أستطيع أن أحتجزهم”.
هذه الجملة وحدها تختصر أن فرنسا لم تتمكن قط من فرض اعتراف جماعي بشرعيتها، لأن الانتماء للمغرب ظل راسخا في الضمير الجماعي للمنطقة.
سلطان يزاوج بين الرمزية والفعل
لم يكن السلطان مولاي الحسن الأول يكتفي بالرمزية، بل مارس سلطة فعلية واضحة:
-عين قوادا رسميين على الواحات (محمد أو سالم على قورارة، محمد بن الحاج محمد على توات، الحاج المهدي بن باجودة على ان صالح).
-أرسل خليفة للمخزن مقره قصر تيمي.
-فرض الجبايات الشرعية (الزكاة) وأوفد القضاة والعلماء.
هذه الإجراءات تؤكد أن المغرب تعامل مع الصحراء الشرقية باعتبارها جزءا من دولته المركزية، لا أرضًا خارجة عن القانون كما حاولت فرنسا تصويرها.
المقاومة الشعبية
لم يتوقف الأمر عند التعيينات، بل تجسدت السيادة المغربية في مقاومة ميدانية مسلحة.
-أولاد جرير هاجموا قوافل جزائرية موالية للفرنسيين.
-آيت خباش شنوا غارات على أولاد سيدي الشيخ المتحالفين مع الاستعمار (دجنبر 1892).
كانت هذه التحركات بمثابة رسائل سياسية واضحة: أي تعاون مع فرنسا خيانة، وأي محاولة لفصل الصحراء عن المغرب ستُواجَه بالقوة.
البعد الدبلوماسي والاتفاقات الأوروبية
الوثائق الفرنسية نفسها تُظهر أن قضية توات لم تكن مسألة محلية، بل ارتبطت مباشرة بالسياسة الدولية.
-اتفاقية 5 غشت 1890 بين فرنسا وبريطانيا وضعت الصحراء ضمن “منطقة النفوذ الفرنسية”، لكنها لم تُلغِ التعهدات السابقة بحماية وحدة المغرب (اتفاق 1887 الموقع بين إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا). لذلك كان على فرنسا أن تتحرك بحذر، خشية صدام مع لندن.
-بريطانيا، التي كانت تعتبر طنجة والمضيق خطا أحمر، نصبت نفسها حامية “سلامة الإمبراطورية الشريفة”، حتى وإن كان ذلك أحيانًا ذريعة لفرض نفوذها الخاص.
-إسبانيا من جانبها، استغلت أوراقها (سبتة، مليلية، جزر الجعفرية) للضغط، ووجدت نفسها في مواجهة مع فرنسا على النفوذ بالمغرب.
-أما إيطاليا وألمانيا، فكانتا تراقبان طمعا في نصيب، دون التورط المباشر.
هذه المعطيات جعلت المسألة أوضح: توات لم تعد مجرد نزاع حدودي، بل جزء من القضية المغربية برمتها، في عين أوروبا كلها.
سياسة مولاي الحسن الأول: الحزم في مواجهة الأطماع
إزاء هذا التداخل الدولي، شدد مولاي الحسن الأول قبضته على الواحات:
-أعاد تنظيم البنى الإدارية.
-أكد الطاعة والولاء عبر الرسائل السلطانية.
-أنذر القوى الأوروبية من أن أي تدخل في هذه المناطق يعد عدوانًا على السيادة المغربية.
رحلته التاريخية إلى تافيلالت سنة 1893 جسدت هذا الحزم. فقد اصطحب معه جيشا قوامه 30 ألف جندي وكبار رجالات الدولة (الحاجب با أحمد، الصدر الأعظم الحاج المعطي، نائب السلطان غرنيط…). وهناك استقبل قواد الواحات ومن ضمنهم با حسون ممثل توات، الذي بقي ثلاثة أشهر معه. انتشرت الإشاعات وقتها بأن السلطان سيواصل المسير إلى توات، وهو ما أثار رعب السلطات الفرنسية في الجزائر.
بين تمبكتو وتوات: الامتداد المغربي نحو السودان
الأرشيف الفرنسي يثبت أن المغرب ظل حاضرا حتى في تمبكتو. فقد بعث أعيانها سنة 1893 برسائل استغاثة إلى السلطان يطلبون منه الدفاع عنها ضد الفرنسيين. لكن سقوط المدينة في يد فرنسا سنة 1894 قطع الامتداد المغربي نحو السودان وأغلق شريانا استراتيجيا ظل مفتوحا منذ القرن السادس عشر.
وفاة السلطان: لحظة مفصلية
وفاة مولاي الحسن الأول في يونيو 1894 شكلت منعطفا تاريخيا. فقد وصفه الفرنسيون بأنه “العمود الفقري للخيمة الكبرى التي يمثلها المخزن”، وأنه نجح في تحويل المغرب إلى كيان أكثر وحدة وتنظيما. برحيله، فقد المغرب زعيما إصلاحيا وحازما، ووجد نفسه أمام أطماع متزايدة في ظرفية دولية دقيقة.
لقد حاول خلفه، مولاي عبد العزيز، أن يحافظ على التوازن، لكن ضعف المخزن الداخلي وتكالب القوى الاستعمارية جعلا مرحلة ما بعد الحسن الأول بداية المنعطف الحاسم في تاريخ الصحراء الشرقية.
ما أورده سعيد صياغ في كتابه «La France et les frontières Maroco-Algériennes 1873-1902» ليس رواية وطنية مغربية، بل شهادة دامغة من الأرشيف الفرنسي، تؤكد أن:
-سكان توات وتيديكلت وإن صالح ظلوا على بيعة السلطان العلوي.
-مولاي الحسن الأول مارس سيادة فعلية بالتعيينات والجبايات.
-فرنسا فشلت في فرض أي خضوع جماعي.
-قضية الواحات ارتبطت مباشرة بالاتفاقيات الدولية، فأصبحت جزءًا من “القضية المغربية”.
هكذا، ليست مغربية الصحراء الشرقية مجرد ادعاء، بل حقيقة تاريخية موثقة، نطقت بها الوثائق الفرنسية نفسها، وارتبطت باسم سلطان إصلاحي كبير هو مولاي الحسن الأول، الذي بوفاته طُويت مرحلة وبدأت أخرى أكثر تعقيدا في تاريخ الصراع المغربي–الفرنسي.
ملحق
ترجمة بعض الصفحات من الكتاب (من الصفحة 66 إلى الصفحة 78)
الصفحة 66
الزوايا الصغيرة والأشخاص قليلو الحظ، كانوا مستعدين لأن يقتلوا أنفسهم دفاعًا عن بلادهم ضد تقدم القوات الفرنسية.
علمت دائرة غرداية أن طوارق الهقار لن يترددوا في مهاجمة القوات الفرنسية إذا ما تجرأت على المغامرة في توات. وبالمثل، فإن المخبرين من فرقة وهران أفادوا بأن جميع سكان توات وتيديكلت كانوا مصممين على إعلان ولائهم للسلطان. غير أنه، عُلم أن المرابطين وكبار المُلّاك لن يترددوا في فتح أبوابهم. هذا الموقف تأكد منذ تعيين القياد من طرف مولاي الحسن. الأعيان، الغيورون من رؤية لقب القايد يُمنح لخصومهم، لم يترددوا في الاقتراب من السلطات الجزائرية. وهكذا كان حال مولاي الحسن بن مولاي المهدي، شيخ قصر أعوقديم، الذي توجه إلى وهران في سبتمبر 1891، وطلب تدخل القوات الفرنسية. وبالمثل، فإن الحاج أحمد أو قـﮔا من أولاد المختار لم يقبل بتعيين ابن عمه محمد بن الحاج محمد محمود قايدًا، وأراد لذلك أن يدخل في خدمة فرنسا. أما محمد أو سالم، الذي عُيّن قايدًا على قورارة، فقد أبدى استعداده للتعاون مع السلطات الفرنسية، متبعًا تعليمات الشريف أوعزان. غير أن هذه الخطوات من هذا النوع بقيت محدودة.
الموقف المتجانس نسبيًا لسكان توات فُسّر بكونه نتيجة للمناورات البان-إسلامية. ومع ذلك، في الجزائر العاصمة كانوا يواصلون الاعتقاد، بعد تأجيل أول مشروع لحملة فرنسية نحو توات، أن الناس سيخضعون للفرنسيين بمجرد ظهورهم إذا لم يرسل السلطان قواته. بالفعل، كان القلق شديدًا بين التواتيين، وخاصة بين البدو. هذا ما دفعهم إلى القيام بأعمال انتقامية ضد القبائل الجزائرية الخاضعة. مثل حال أولاد دوي منيع وأولاد جرير الذين هاجموا قافلة جزائرية جاءت للتجارة مع تافيلالت، وحال آيت خباش الذين غزوا أولاد سيدي الشيخ شراقة في قورارة في ديسمبر 1892.
مولاي الحسن، الواعي بالخطر، سارع إلى القيام بعمل حازم.
قضية الحاج با جودا
كان أولاد با جودا يمثلون العائلة الأغنى والأكثر مكانة بين أولاد با حمو في تيديكلت. كان نفوذهم يمتد حتى الطوارق. الشقيقان الحاج محمد والحاج عبد القادر كانا قد حذّرا سنة 1874 (المستكشف) صولييه بأن: «نحن عبيد سيدنا السلطان الحسن بن سيدي عبد الرحمن بن سيدي هاشم أبًا عن جد، نحن من أتباعه وقد أقسمنا له على الولاء والطاعة… فاعلموا إذن أننا لا يمكننا أن تكون لنا علاقات معكم، ولا أن نسمح لكم باختراق أراضينا، ولا أن نقيم أي تجارة معكم أو أن نحتفظ معكم بأدنى العلاقات. أنتم ونحن، يجب أن نبقى دائمًا بعيدين بعضنا عن بعض».
وهكذا، فإن تعلقهم بالسلالة العلوية بدا غير قابل للانكسار.
الصفحة 67
في مارس 1891، عُلِم فجأة أن محمد بن موسى، قايد عشاش الجزائريين، قد رفع إلى الكابتن ريكو، رئيس ملحقة الوادي، عرض خضوع الحاج المهدي بن باجودة العمري الكبير من عين صالح. الجنرال دو لا روك، قائد فرقة قسنطينة، أبلغ الحاكم العام بذلك، في نهاية الشهر، وهذا الأخير رفع القضية إلى رئيس المجلس وإلى مختلف الوزارات المعنية. في يونيو 1891، أُرسل قايد العشاش إلى عين صالح بمهمة إحضار طلب مكتوب للخضوع من طرف الحاج المهدي. لكن هذا الأخير اكتفى بأن يرسل رسالة إلى الوادي يُعلم فيها أنه فوض ابن عمه وصهره سي أحمد بن الحاج الذي «سينقل بصوت عالٍ رواية كل الأخبار». مبعوث الحاج المهدي وصل بالفعل إلى الوادي في 20 أكتوبر وأكّد «الأفكار والتطلعات» لابن عمه.
عندها أعطى الحاكم العام تعليماته إلى الجنرال قائد فرقة قسنطينة، ليُحضّر مشروع وثيقة خضوع من طرف شيخ عين صالح، والتزامًا آخر بالحماية من طرف الحاكم الفرنسي. كما كانت هدايا مخصصة لهذين الاثنين من أولاد بوجودة. مشروع وثيقة الخضوع صيغ كما يلي: «إذا الحاج المهدي بن الحاج عبد القادر بن محمد بن بوجودة العمري إلى السيد الجنرال قائد ولاية قسنطينة:
*«تنفيذًا للمحادثات التي تم الدخول فيها بين السلطة الفرنسية وبيني (…). أعلن، باسمي وباسم جميع خاصتي، سكان واحات تيديكلت، أني أعترف بالسلطة الفرنسية في جميع البلدان التي تمتد عليها سلطتي ونفوذي، وأطلب أن يأتي ضابط فرنسي مفوض رسميًا من الحكومة العامة للجزائر ليقيم في عين صالح ليكون وسيطي مع الحكومة العامة.
أعدكم بمساعدتي وبمعاونتي لجميع الفرنسيين الذين سيأتون إلى تيديكلت، وكضريبة، سأحتفظ دائمًا ببيت جاهز لاستقبالهم في عين صالح…
وأتعهد أيضًا أن أؤدي بتفانٍ في بلادي المهام التي ترغب فرنسا أن تعهد بها إليّ». *
في المقابل، التزمت الحكومة العامة للجزائر بأن ترسل إلى الحاج المهدي برنوس استثمار وعقدًا بقيمة 6000 فرنك سنويًا. ومع ذلك، الحاج المهدي، عند تسلمه مشروع وثيقة الخضوع، سارع إلى الرد: «أنا أخضع شخصيًا وأنا خادمكم؛ لكن فيما يتعلق بالناس: لا أستطيع أن أحجزهم». (الأرشيفات الاستعمارية A.O.M).
هل كان هذا التملص نتيجة عمل مولاي الحسن الذي كان يعيد تنظيم إدارة الواحات في ذلك الوقت؟ من المحتمل، إذ في يونيو 1892 مُنح الحاج المهدي بن بوجودة لقب قايد عين صالح. بعد فترة قصيرة، أعاد إلى قسنطينة الهدايا بواسطة نفس المبعوث، الذي أعلمه بأنه يتخلى عن نيته في خدمة الفرنسيين. وفعل الشيء نفسه في رسالة موجهة إلى سي محمد بن العروسي، شيخ الزاوية التيجانية: «من طرف موظف سيده ومولاه الحسن. إذا كنتم تهتمون ببلادنا وبأهاليها… »
الصفحة 68
… وتوابعهم هم في الطمأنينة والهناء في الله. فلا تأتي أي قضية أخرى لتعكر صفو الروح أو تُكدّر الوقت».
نفسه سي محمد بن العروسي كلّف قويدر بن يونس بالذهاب إلى عين صالح ليتأكد من صحة الخبر. وهناك علم بأن أهل عين صالح قد علموا بمساومات الحاج المهدي واتهموه بأنه يريد بيع بلاده، مما دفعه إلى إعادة كل الهدايا أمامهم. شيخ التيجانية خلص إلى أن أولاد با جودا «كانوا يرغبون في الحفاظ على مكانتهم تجاه أهل منطقتهم وكانوا يخشون أن ينزع السلطان عنهم كل سلطة».
نحو نهاية سنة 1893، بينما كان يُعرف عن تصرفات دحّاج بن با جودا، أخ الحاج المهدي، أنه «لم ينسَ شيئًا من القصص الماضية»، أُعدّت نشرة فردية في غرداية حول قايد عين صالح تشير إلى أنه كان «معاديًا» للقضية الفرنسية. بل إنه مات في 1899 وهو يدافع عن قصره.
من جانبه لم يكن بإمكان مولاي الحسن أن يبقى ساكنًا دون رد. كانت توات أكثر أهمية من مسارات بدو الظهرة أو صحراء أنكاد. لم يُعتبر القصوريون أبدًا من أهل السيبة، بل على العكس، المخزن كان يعدّهم ضمن أهل «الصلاح والإصلاح».
حتى عام 1891، كان السلطان يكتفي بتحذير القوى الأوروبية من المخاطر التي يتعرض لها رعاياها إذا ما تجرؤوا على المغامرة في تلك النواحي البعيدة من دون إذن منه. ولكن منذ الاحتلال النهائي لقورارة من طرف حامية فرنسية، باشر عملاً أكثر صرامة.
التدابير الإدارية
في بداية حكمه، أبقى مولاي الحسن على توات في شبه استقلال نسبي، أصبحت تقليدًا منذ مولاي سليمان. وحسب رسالة من سكان عين صالح إلى المسافرين الأوروبيين، فإن السلطان كان يرسل بانتظام مبعوثين لتسوية شؤونهم. غير أن الخوف من وصول القوات الفرنسية أخذ يتزايد، وفي سنة 1887 بعث وفد يضم 75 شخصًا، بقيادة مولاي علي بن مولاي إسماعيل، إلى السلطان. هذا الأخير أطلعه على مخاوفه وعاد بصحبة كاتب شريف مزود برسالة سلطانية لتهدئتهم. تتابع وصول مندوبين آخرين تحت الحراسة إلى توات، بينما عُيّن أول والٍ على رأس توات والصحراء المتحدة في 1890. وبعد عام، أخبر السلطان التواتيين بقدوم مبعوثه إليهم بخصوص صيغة إدارية جديدة. مضمون الرسالة ذو دلالة:
«باسم الله. خدمنا المباركون من قورارة وكافة قصور أهل توات… ثم إننا أرسلنا إليكم، من بين وجهاء محكمتنا الشريفة، مندوبين، وخصصنا لكم في ولاياتنا ورعايانا اهتمامًا خاصًا لعلمنا أنكم أهل صلاح ودين، تؤدون باستمرار واجب الطاعة حسب أوامر الله. كانت أعمالكم ميسرة وشؤونكم مثمرة تمامًا. كذلك أسلافكم، قدسهم الله، كانوا يكتفون…»
الصفحة 69
نظرًا لصلابة إيمانكم وأخوّتكم في الله، تركنا لكم حرية القيام بخياركم.
«إن سيّدنا وسلفنا مولاي سليمان، قدّس الله روحه، كان يكتفي بإرسال الأمناء لجمع زكاتكم وعشوركم، رأفةً بكم عندما علم بالتجاوزات التي ارتكبها الولاة ضدكم. هذا الإجراء حُوفظ عليه في حياة سلفنا وسيّدنا مولاي عبد الرحمن، قدّس الله روحه، وتواصل في حياة سيّدنا وأبينا الذي يغمر آثاره من رحمته.
«عندما أوكل الله إلينا أمر شؤونكم، سرنا على نفس الطريق، وبقي وضعكم كما نريد.
«والآن لكي يتجدد عهدكم، نبعث إليكم كاتبنا، المستشار الحكيم الطالب العربي بن المقّدم المنيعي، أحد أعيان وعلماء بلاطنا الشريف. لقد أعطيناه تعليمات شفهية ستكون سبب سعادتكم. فلا تدخروا جهدًا في أن تمتثلوا لتوصيات رسولنا الشريف حتى تنالوا بركة الله، ونبيه وبركتنا. إنما ينجح من يطيع الله ونبيه ويتقي الله. والسلام… في 24 شوال 1308 (الأرشيف ب.ر.ر)».
كُلّف الطالب العربي المنّي بالمهمة نفسها لدى دوي منيع، وأولاد جرير، وزاوية القنادسة. وبعد أن أنهى جولته في توات، أخذ طريق العودة برفقة با حسّون من التواتي ومعه هدايا للسلطان. هذا الأخير عيّن القواد والقضاة والنقباء من الأشراف في جميع نواحي الواحات، وأرسل شارات التولية مع با حسّون، الذي عُيّن بدوره قايدًا بمهام استثنائية، لتجميع ضرائب جميع الواحات.
هذا الاسترجاع للإدارة، الذي فُرض لتجنّب التعقيدات الدبلوماسية، لم يكن ليمر دون أن يُثير احتجاجات الحكومة الفرنسية.
التدابير السياسية
إعادة التنظيم الإداري والقضائي التي أجراها السلطان كانت، بلا شك، في ظل الظروف الاستثنائية المحيطة به، عملاً سياسيًا هدفه إيقاف التغلغل الفرنسي في الصحراء. لكنه كان عليه أيضًا أن يواجه فشل نفوذ الشريف وزان، الذي وُضع منذ زمن طويل في خدمة هذا التغلغل، وأن يمنح مزيدًا من الطمأنينة لتواتيين القلقين، إضافة إلى القيام بعمل دبلوماسي ينتهي باعتراف دولي بحقوقه السيادية على توات.
كان أول ذلك رحلة الشريف أوعزّان إلى الواحات، التي أُعدّت في الجزائر، لكنها انتهت بفشل. إذ اشتكى الكُصريون عليه لدى السلطان الذي هنّأهم لاحقًا على رفض استقباله. حتى قايد تيمّي، المخلص للشريف، تنصّل منه، وهو ما لم يخلُ من إثارة خيبة أمل أكيدة في الجزائر.
الصفحة 70
بعد ذلك، شرع مولاي الحسن في سلسلة من الخطوات التي كان مداها ذا طابع أخلاقي بالأساس. ففي يونيو 1891 بدأ بناء “برج” في منطقة فكيك. كانت السلطات الفرنسية دائمًا ترى بعين سيئة بناء البرج، لأنه هش من منظور عسكري لكنه فعّال من أجل السيطرة على التجارة. ومن هنا جاء الخوف من أن يُغلق «من الآن فصاعدًا على الحامية النظامية التي ستضع أسواق تافيلالت تحت أيدي سكان وهران (خاصة وأن هؤلاء الأخيرين مُنعوا من دخول قورارة بسبب الحقوق التي أمر السلطان بتحصيلها من القوافل القادمة من الجزائر)».
في أغسطس من نفس السنة، ذهب المبعوثون الشرفيون المرسلون إلى توات للاحتجاج في إلي-غولية على بناء حامية فرنسية.
إن التقارب مع القوى الأوروبية، وخاصة بريطانيا العظمى، المستعدة لاستغلال أي خطأ من فرنسا في المغرب، دفع هذه الأخيرة إلى العمل بمزيد من الحذر. دو أوبيني، خلال رحلته إلى فاس، جاء ليبلغ السلطان أن فرنسا تطلب تشكيل «لجنة دولية» لحل الخلاف الفرنسي-المغربي حول الحدود الجنوبية، وأن فرنسا لم تكن في نيتها قط مراجعة معاهدة 1845. قبل عام من ذلك، رد غرنيط، نائب السلطان بطنجة، على باتينوتر بأن من شأن السلطان أن يعاقب التواتيين المشتبه في مشاركتهم في اغتيال فلاترز سنة 1881. بالإضافة إلى ذلك، جرت اتصالات لدى إسبانيا وإيطاليا. وهكذا، كلّف مينابريا، سفير إيطاليا في باريس، في فبراير 1892، بنقل الاحتجاجات المغربية إلى الحكومة الفرنسية.
لكن العمل الأكثر بروزًا كان رحلة مولاي الحسن إلى تافيلالت سنة 1893. ومن المؤكد أن هذه الرحلة كانت أكثر من مجرد واحدة من تلك الحملات التي اعتاد السلطان تنظيمها لتحصيل متأخرات الضرائب.
انطلق من فاس في 29 يونيو 1893، ومرّ عبر الأطلس المتوسط وأقام في قصر السوق حتى 24 نوفمبر. كان حجم الحملة يتضح من الموكب الضخم المكوَّن من 30 ألف جندي ويشمل إلى جانبهم الصدر الأعظم الحاج المعطي، والحاجب با أحمد، ونائب السلطان سيدي فدّول غرنيط، والطبيب ليناريس.
بدأ السلطان باستقبال القواد والأعيان من جميع القبائل، حتى الأبعد منها مثل زيان من الأطلس المتوسط وغلاوة من الأطلس الكبير. ثم استقبل قواد مختلف مناطق واحات الصحراء، وعلى رأسهم با حسّون الذي بقي ثلاثة أشهر عنده. حتى سي قدور بن حمزة، زعيم أولاد سيدي الشيخ، قام بمساعٍ لوضع نفسه تحت سلطة السلطان. في الجزائر، اعتُقد أن بوعمامة قد عُيّن «مراسلاً ومفوّضًا» لمولاي الحسن في الصحراء. لقد أحدثت الرحلة إذًا أثرًا كبيرًا، إلى درجة أن الإشاعة سرت بأن السلطان سيواصل حملته إلى غاية توات، الأمر الذي زاد من قلق السلطات الجزائرية.
سارعت هذه الأخيرة عندئذٍ إلى الرد. بدأ كامبون يصف الرحلة بأنها «تتويج لكل المؤامرات التي حبكها عملاء (السلطان)»…
الصفحة 71
… في واحات أقصى الجنوب منذ سنتين». ثم طلب «الخروج من الموقف الانتظاري باحتلال تيميمون وعين صالح». من جانبه، تحدّث نشرة لجنة إفريقيا الفرنسية عن «تدخّل صحراوي».
كان هناك بالتأكيد ما يدعو للقلق. هيبة فرنسا في الجزائر نفسها وفي المناطق المرغوبة وُجدت متزعزعة. ذهب كامبون حتى إلى التصريح بأن «الوضع في الجنوب الوهراني أصبح لا يُطاق؛ لو كنا في حرب مع المغرب، لما كان هناك فرق مع ما يحدث الآن». إثر ذلك، طالب بالحصول على ترخيص لقيادة حملة ضد واحات توات. وقد دعمت هذا المطلب المفوضية في طنجة التي طلبت بدورها «عملاً سريعًا وتدخلًا في أقرب وقت». لكن في 5 نوفمبر 1893، أعلن الجنرال هيرفي، قائد الفيلق التاسع عشر للجيش، إلى كامبون في برقية من وزير الحرب، قرار مجلس الوزراء «بتأجيل» مشروع الحملة.
من المؤكد أنه لا يمكن القول إن مولاي الحسن نجح في إنهاء العمل الفرنسي في الخاصرة الجنوبية الشرقية من إمبراطوريته، لكن المؤكد أن توات ظلت مغربية في حياته. في حين لاحظ أحد الناطقين باسم الحزب الاستعماري بمرارة أن «جلالته الشريفة، عند عودته من حملته، قد حسم بشكل نهائي لصالحه كل المسائل التي لم نتمكن نحن من معرفتها وحلها في أقصى الجنوب»، كان الحاكم العام للجزائر يلوم وزير الخارجية على أن «كل التصريحات الدبلوماسية أو البرلمانية التي كنا ندلي بها لإعلان قضية توات كمسألة جزائرية، يبدو أنها أصبحت عديمة الجدوى». لقد نجح مولاي الحسن فيما لم تستطع السياسة الإسلامية حتى آنذاك تحقيقه: جمع كل النفوذ السياسي والديني المتناثر حتى ذلك الوقت في محور واحد.
وهل سيستمر هذا التوافق بعد مولاي الحسن؟
في هذه الأثناء، توقفت رحلة السلطان بسبب قضية مليلية التي أجبرته على استقبال في 19 ديسمبر 1893 بمراكش سفير إسبانيا مارتينيز كامبوس. ثم إن هذه القضية أجّلت مشروعًا فرنسيًا آخر لحملة على الواحات.
وهكذا بدت مسألة توات أكثر من أي وقت مضى جزءًا من القضية المغربية.
لم يبقَ أمام فرنسا سوى أن تفصل بينهما بإثبات أن «القوة الحقيقية» كانت تعود إليها.
حدود المقاومة
هل كانت عزيمة مولاي الحسن كافية للحفاظ على وحدة المملكة واستقلالها؟
الصفحة 72
من الصحيح أنه تحت حكم هذا السلطان احتفظ المغرب بوحدته وقاوم، بقدر ما يستطيع، التفتت. لكن هذا الوضع المتناقض لبلد واسع، هش، مطمع ومستقل في مواجهة القوى الطموحة، لم يكن يبدو أنه سيدوم طويلاً.
إن وفاة السلطان، وحدة الصراع بين الأمم الأوروبية، وعجز المخزن عن الدفاع عن الأقاليم الأكثر بُعدًا في الإمبراطورية كانت تُنذر بالفعل بالانهيار.
قضية توات وقضية المغرب
في 5 غشت 1890، جاءت الاتفاقية الفرنسية-الإنجليزية لتعيد إحياء الحلم الفرنسي بتوحيد مستعمرات الشمال والغرب الإفريقي. رأت الحكومة الفرنسية في هذا الاتفاق، فيما يتعلق بمناطق النفوذ لكلتا القوتين في إفريقيا، تكريسًا لأمانيها في السيطرة الصحراوية. وهكذا وُجدت توات ضمن «الداخل» الجزائري. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقفوا عن التكرار بأن مسألة الواحات «ليست مسألة أوروبية، ولا حتى مسألة مغربية… بل مسألة شرطة في جنوب الجزائر الفرنسية». لكن كان يُعلم في أماكن أخرى أنه ينبغي التصرف بحذر. فالاتفاقية وضعت الصحراء في منطقة نفوذ فرنسا لكنها لم تتخلّ عن التعهد السابق حول سلامة المغرب الموقع في مارس 1887 من طرف إنجلترا، إسبانيا وإيطاليا.
كان هناك بالفعل متطرفون يطالبون بـ«إعلان بسيط وصريح لحمايتنا على هذه المناطق…»، لكن يمكن دائمًا اعتبار أن اتفاقية 1890 وضعت ضمنيًا هذه المنطقة في مجال نفوذنا. لكن البصيرة غلبت؛ «الديك الغالي… (رفض) الرمال (التي إنجلترا أعطته إياها ليحفر فيها)».
إنجلترا، الخصم الرئيسي لفرنسا في شمال غرب إفريقيا، كانت على الأرجح مستعدة لترك يديها حرتين في الصحراء مقابل حرية عمل في شرق إفريقيا. غير أنها، في الحوض المتوسطي، لم تكن لتسمح لقوة ثالثة بأن تسبقها في طنجة التي منحتها مع جبل طارق سيادة لا جدال فيها على المضيق. وكان ذلك، على أي حال، أحد الأسباب التي ربطت في عيون أوروبا مسألة توات بمجمل المسألة المغربية، خصوصًا وأن التجارة الصحراوية كانت تنطوي على مصالح اقتصادية متنوعة. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن بريطانيا العظمى قد نصبت نفسها مدافعة عن «سلامة» الإمبراطورية الشريفة حتى ولو على حساب فرض حمايتها على السلطان.
إسبانيا، قوة أقل أهمية، كانت مع ذلك تمتلك أوراق ضغط: الثغور (سبتة ومليلية)، التي أضيفت إليها جزر الجعفرية عند مصب ملوية سنة 1848، ومنشأة صيد غير محددة في جنوب المغرب سنة 1860. وبهذا الشكل، وجدت إسبانيا نفسها في نفس الوضعية مثل فرنسا: قوة متوسطية لها حدود مشتركة مع المغرب. هذا الوضع جعل كل محاولة من طرف أحدهما تصطدم بمصالح الآخر. وكانت توات أحد موضوعات احتكاكهما.
الصفحة 73
وكان ما يقرّبهم أيضًا، قضية مليلية التي قدمت الفرصة لذلك. نشرة لجنة إفريقيا الفرنسية التي بدأت تستغرب من الموقف المتساهل لإسبانيا، انتهت بالاعتراف أن «هناك احتمالاً أن تكون هذه السياسة الحكيمة مفيدة لإسبانيا في المستقبل».
بقي إذن منافسان آخران: ألمانيا وإيطاليا، الساعيتان بدورهما إلى «مكان تحت الشمس» واللتان كانت مصالحهما في المغرب قابلة للتفاوض مقابل نقاط أخرى في إفريقيا، وهو ما لم يمنعهما من أن تكونا نشيطتين بشكل خاص.
لكن في نهاية المطاف، ظلت فرنسا الطرف الرئيسي المهتم بالشؤون المغربية.
إن فكرة استعمال الحدود الجزائرية-المغربية لتمديد النفوذ الفرنسي داخل الإمبراطورية الشريفة لم تكن جديدة. لكن منذ توقيع الاتفاقية الفرنسية-الإنجليزية، بدأت المشاريع الفرنسية تتضح أكثر. فقد كان ذلك يتماشى مع اقتناع أكبر للرأي العام الفرنسي بالفكرة الاستعمارية؛ ونضج لدى المدافعين عن هذه الفكرة، مع تصاعد التنافس بين المجموعات المختلفة النشطة في هذا المجال. سنة 1890 شهدت ميلاد لجنة إفريقيا الفرنسية برئاسة الأمير أرنبرغ. وفي نفس السنة جاء تعيين جول كامبون على رأس الحكومة العامة للجزائر. وقد موّل، خارج مهامه الرسمية، نشر المجلدات الأربعة من وثائق لخدمة دراسة شمال-غرب إفريقيا بين 1894 و1897، التي أشرف عليها هنري لامارتينيير ونيكولا لاكروا. وبعد عامين تأسست داخل البرلمان غرفة نواب استعمارية تحت رعاية الوهراني أوجين إتيان.
صعود هذا النائب الديناميكي كان يعكس هيمنة المستوطنين الجزائريين وعزمهم على لعب دور قيادي ليس فقط في الجزائر ولكن أيضًا خاصة في المغرب. ففي الواقع، كانت الجزائر تميل أكثر فأكثر إلى التعبير عن حاجاتها الخاصة. لقد تضاعف السكان ذوو الأصل الأوروبي بين 1872 و1897، وارتفعت الأراضي الاستعمارية من 815 ألف إلى 1,380,000 هكتار، وكانت المستعمرة تعرف نشاطًا اقتصاديًا لا يُنكر. تيرمان لم يكن قد أدرك منذ 1882 «ضرورة تزويد الجزائر بقوة عامة منظّمة لمواجهة حاجاتها الخاصة». وهو ما لم يلبث أن تحقق.
المجلس الأعلى للجزائر، الذي أنشئ في 1860، كان يتألف من 23 عضوًا، منهم 6 فقط منتخبون، وفي 1875 أصبحوا 18. وفي 1899 سيرتفع العدد إلى 60 عضوًا بينهم 31 منتخبين من المجالس العامة.
وفي الأثناء، كان يتطور في المغرب نفسه، حول المفوضية في طنجة، تجمع مهم من رجال الأعمال الذي سيعطي لاحقًا الحياة لـ الشركة المغربية.
لقد ولّى زمن التنافس بين مؤيدين ومعارضين لفكرة حدود مرسّمة بين المغرب والجزائر. كانت المعركة تبدو تتحدد الآن بين الفرنسيين من الجزائر والفرنسيين من فرنسا الأم. فالأولون كانوا يعتبرون المغرب امتدادًا طبيعيًا للجزائر، وكان هذا يغذي طموحهم في اقتطاع نصيب الأسد في الإمبراطورية الشريفة. أما الآخرون فكانوا يرون فيه بؤرة صراع…
الصفحة 74
بين القوى الكبرى حيث لم يكن بإمكان الجزائر أن تكون سوى عاملاً يعزز الموقع الاقتصادي والعسكري والسياسي لفرنسا.
إن مشاريع غزو المغرب انطلاقًا من الجزائر لم تكن جديدة. لكن إلى الذريعة القديمة بالفعل «لأمن الجزائر» أُضيفت «إمكانية (لفرنسا) توسيع إمبراطوريتها الاستعمارية على التراب الإفريقي». وإلى المطالب المعتادة باحتلال المنطقة الواقعة بين وهران وملوية ووادي زيز، أُضيفت الحاجة إلى احتلال تازة وفاس.
أما فيما يخص الواحات الصحراوية، فلم يكن العسكريون يعارضون احتلالًا محتملاً، ما كانوا يخشونه هو الكلفة البشرية والمادية للعمليات. ولإزالة هذه المخاوف، شرح الجنرال مرسييه، وزير الحرب، أمام مجلس النواب في 24 أبريل 1894 أن «هذه المساوئ ستزول إذا ما أُوكلت مراقبة واحتلال هذه المناطق الصحراوية إلى قوات خاصة، تقيم فيها بصفة دائمة، ويُؤمَّن تجنيدها بواسطة الأهالي… الذين لا يخضعون لأسباب الضعف التي تصيب الأوروبيين وأهالي التل». وبهذه الطريقة لبّى المطالب المتكررة من الحاكم العام للجزائر ووزارة الداخلية اللذين كانا يُلحّان على الفوائد المرتقبة من إنشاء «قوات صحراوية». دعم أوجين إتيان الاقتراح في 14 يوليو 1894 أمام لجنة الجيش المكلفة بدراسة مشروع القانون المتعلق بإنشاء القوات الصحراوية. في 11 ديسمبر تم تبني المشروع.
ومن المثير للدهشة أن حوادث الحدود، التي لم يُسمع عنها منذ أن صعدت قضية توات إلى الواجهة، شهدت اهتمامًا متجدّدًا. متخذين ذريعة حادث عابر، تحدثوا في الجزائر عن عودة الصعوبات المتبقية. هل كان المخزن يسعى من جديد إلى افتعال وضع يؤدي إلى تسوية نهائية لمسألة الحدود؟ أم، على العكس، كانت سلطات الجزائر تريد إبعاد السلطان عن توات عبر نقل مركز الصعوبات إلى شمال تنيت-ساسي؟ أياً يكن الأمر، في جنوب هذه النقطة، لم يطلب الحاكم العام للجزائر من المخزن بعد الآن تعويضات حتى لا يشكل ذلك وثيقة مستقبلية لمطالب ترابية محتملة.
أما أنصار الضم فلم يروا فائدة من اتخاذ مثل هذه الاحتياطات. كانوا يستغربون من أن «فرنسا التي يجب أن يكون لها المقام الأول في المغرب بحكم ممتلكاتها الجزائرية، ظلت طويلًا تنتهج سياسة مترددة. لقد كانت تكاد تخجل من حكم وهران إلى الكُرارة، وكانت تحاول فعلاً أن تُغتفر لها سياستها عبر التنازلات». هكذا على الأقل كان يرى كاتب افتتاحية B.C.A.F.
إزاء موقف فرنسا الأم، الذي كان يتمثل في عدم التسرع في قضية المغرب، كانت الجزائر ترد بأنه لا يجب إطالة هذا الوضع إلى ما لا نهاية لأنه قد يهدد التوسع الجزائري. أما كامبون، الذي كان قد وضع أسس سياسة صحراوية، فقد اعتبر أن عدم احتلال توات كان «خطأ لا يُغتفر وأن ربط حل هذه القضية…
الصفحة 75
… بمسألة قضية المغرب». وبما أن المغرب لم يعد سليمًا، «فكلما حُسمت مسألة توات مبكرًا، كان ذلك أفضل». لا أعتقد في الواقع أنه سيمر وقت طويل قبل أن تُطرح مسألة المغرب بشكل علني، وسيكون من الضروري أن تُحسم مسألة توات قبل ذلك».
مع ذلك، لم تكن الصحافة الجزائرية ترحم. فقد سارت الجزائر في اتجاه نفي بسيط ومباشر لسلطة المخزن، مفضلةً عليها تأثيرات الزوايا والأعيان، الأقل مكانة ولكن الأكثر إزعاجًا. حتى إنهم كانوا يعتبرون أن الإمبراطورية الشريفة لم تعد سوى «اسم متفاخر يمنحه الجغرافيون» لبلد في حالة فوضى كاملة. ولهذا لم يعد الوضع الراهن قادرًا على أن يبقى سوى بمثابة «عقيدة دينية».
مع ذلك، لم تكن الآراء الأكثر اعتدالًا غائبة. فـ “ألفريد لو شاتولييه”، منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، طرح فكرة اختراق سلمي وتعاون مع المخزن انطلاقًا من الجزائر. وجهة نظره لم تفت أن تغري كذلك أوجين إتيان كما بول ريفويل و”ليوطي”.
لكن أياً تكن الخلافات بين المجموعات المهتمة بالمغرب، فقد استمر التوسع الصحراوي. باتت الطرق تُدرس الآن بمزيد من التدقيق وتُحدد بمحطات مضمونة. في شهر مارس 1895، قدّم أوجين إتيان، مدعومًا من نواب آخرين، مشروع تعديل إلى مجلس النواب على قانون المالية من أجل تسهيل عبور البضائع الجزائرية عبر إعفائها من الرسوم الجمركية ورسوم الموانئ. سياسة الاعتماد على أولاد سيدي الشيخ وزاوية وزان، وكذلك البحث عن حلفاء بين الطوارق والتواتيين، كانت تُتابع بعناية. لم يعد الصحراء مجرد داخل جزائري بل أصبح تدريجيًا منطقة نفوذ حصرية للجزائر.
كانت فرنسا تستطيع «الانتظار بهدوء» لفتح الواحات.
فتح تمبكتو (34)
كانت تمبكتو قد فقدت مجدها الماضي، لكن الأسطورة بقيت. الرحلات المثيرة للاهتمام، ولا سيما رحلة كاييه سنة 1828، والحاخام المغربي مردخاي أبي سرور سنة 1859، ولينز سنة 1880، أكدت أهمية المدينة في العلاقات بين شمال إفريقيا والسودان.
إن السباق الفرنسي-الإنجليزي في إفريقيا دفع فرنسا إلى الاعتماد على توابعها في غرب إفريقيا للتوغل أكثر في القارة. هذا التوسع لم يكن يمكن إلا أن يقلق سكان تمبكتو. فقد كانت المدينة فيما مضى خاضعة لسلطة سلاطين المغرب. علاوة على ذلك، فإن علاقاتها مع هذه الإمبراطورية لم تتوقف قط، من خلال تجار الصويرة، خصوصًا التجار المرتبطين بالسلطان. وهكذا ففي مايو 1893، أُرسلت رسالة من أعيان تمبكتو إلى مولاي الحسن يعلنون له فيها أن «أعداء دينكم وأعداء…
الصفحة 76
… «أعداء دينكم وأعداء أجدادكم قد أخذوا بلادكم؛ أخرجوهم منها مكلّلين بالذل». تبعتها رسالة ثانية لتذكيره «بواجبه» في أن يأتي ليدافع عنها. وأخيرًا، رسالة ثالثة من أحد الشرفاء جعلت السلطان يقرر استشارة علماء فاس بشأن الموقف الذي ينبغي اتخاذه. فجاء الجواب بالإجماع أنه سواء من الناحية الشرعية أو من حيث مصلحة الجماعة، فإن الجهاد في مثل هذه الحالة ليس واجبًا.
في هذه الأثناء، كان أحمد بويع وإمام بن أحمد، اثنان من أعيان تمبكتو، قد انطلقا نحو مراكش في أواخر سنة 1893. وصلا عند السلطان بينما كانت القوات الفرنسية تحتل مدينتهم.
لم يتم فتح المدينة دون صعوبات. فالسيطرة الكاملة لم تكتمل إلا في يناير 1894 على يد العميد جوفر، بينما كانت التحركات للسيطرة قد بدأت منذ ربيع 1893. كان عدد الضحايا كبيرًا بما يكفي لإثارة في فرنسا حملة من الاحتجاجات. غير أن مزايا هذا الفتح كانت لا يمكن إنكارها. فمنذ 10 يناير، بينما كانت القوات الفرنسية لا تزال تخوض معارك مع المدافعين عن المدينة، أمر الحاكم العام للجزائر، بعد أن أُبلِغ، الجنرالات قادة الفرق الثلاث بنشر الخبر بأسرع ما يمكن وبأوسع ما يمكن في البلاد العربية.
في موغادور (الصويرة)، كان القنصل الفرنسي يتساءل عما إذا لم يكن الأثر هو القضاء على العلاقات بين الميناء المغربي وتمبكتو عبر تغيير مسار القوافل التي كانت تصل إليه حتى ذلك الحين. في الواقع، لم تتعافَ موغادور من ذلك أبدًا. حتى رأس جوبي، الذي كان يُخشى يومًا ما أن يُربط بتافيلالت وتندوف، لم يلبث أن سقط بدوره. في السنة التالية، اشترى مولاي عبد العزيز الوكالة الإنجليزية.
وهكذا، تشكّلت فجوة كبيرة في الأجنحة الجنوبية للمغرب. وكان فريش محقًا حين قال: «إن احتلال تمبكتو من قبل قواتنا هو من أبرز الوقائع السياسية والجغرافية التي سيكون لنا أن نعتز بها في هذا القرن».
لقد بدأ الربط بين الجزائر والسودان، الذي سيقطع الإمبراطورية الشريفة عن روابطها الإفريقية.
وفاة مولاي الحسن (35)
بمثابة العمود الفقري للخيمة الكبرى التي كان يمثلها المخزن، كان مولاي الحسن يقود شؤون إمبراطوريته بحزم. في نهاية حكمه، كان المغرب قد اكتسب مظهر بلد «أكثر وحدة، إن لم يكن بعد دولة حقيقية، فعلى الأقل شعب بدأ يجتمع».
إن وفاته في يونيو 1894 ستحدث خللًا داخل الحكومة كما داخل المجتمع المغربي. ولتفادي الاضطرابات، أخفى الحاجب با أحمد خبر وفاة مولاي الحسن وسارع إلى ضمان تعيين الشاب مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن مبايعته محل إجماع.
الصفحة 77
تولّى با أحمد السلطة باسم السلطان الجديد. بدأ بإبعاد الأعضاء النافذين من عائلتي الجامعي والزّبدي المناوئتين، وعيّن نفسه وزيرًا أعظم. أما مولاي عبد العزيز، فبفضل صغر سنه، قلة خبرته، وطيشه، أصبح أداة بيد با أحمد الذي حاول أن يقود سياسة مطابقة لتلك التي كان ينتهجها السلطان الراحل.
استقبلت القوى الأوروبية الخبر بـ«حذر بالغ واحتياط مفرط». حتى إن فرنسا أوقفت توسعها الصحراوي.
في توات، استمرت آثار الرحلة التاريخية لمولاي الحسن إلى تافيلالت. كان الأمن مستتبًا بين الكصوريين والبدو رغم التهديد المتزايد لتدخل القوات الفرنسية. السلطان الراحل، رغم أنه طمأن التواتيين، كان قد حذرهم قائلًا: «كونوا يقظين وحذرين بعضكم مع بعض، فالأوقات صعبة، ولن تنقذكم وتحفظكم إلا يقظة الجميع». ومع ذلك، استُقبل خبر وفاته بهدوء. جمع القايد با حسّون هدايا البيعة وانطلق نحو فاس.
لكن حادثًا خطيرًا أصاب با حسّون والوفد المرافق له. فقد هاجمهم رَزّو من 120 فارسًا من غنّامة، فقتلوا القايد واستولوا على الهدايا. لم يتأخر رد فعل المخزن، إذ أمر السلطان برفع أعلام الانتقام. قدّم توات 1800 مشاة و205 فرسان، بينهم طوارق سيدي أوَلد الگراج. فرقة شريفة بقيادة أحمد بن رزوگ جمعت في طريقها فرسان أولاد منيع وبرابر. تشكّلت حركة أخرى في تافيلالت بأمر من مولاي رشيد وقادها سيدي الحسن الأودغيري.
أبلغ مولاي عبد العزيز نائبه في طنجة لدى المفوضيات الأجنبية بخطورة العقاب: «إن خادمنا الوفي الحاج محمد بن العربي طوريس، التحية ورحمة الله عليه، قد علم أن قبيلة غنّامة من الصحراء لطالما لوثت البحار بالاضطراب وامتطت دواب الشر تقطع الطرقات وتُسفك الدماء. هكذا خانوا الله ورسوله، وتركوا لباس الطاعة، وعارضوا المجتمع بأفعالهم الضارة. لقد دفعهم الشر إلى حد قطع الطريق على خادمنا القايد با حسّون التواتي ورفاقه من وفد توات والطوارق المتجهين نحونا للتهاني ومراسيم البيعة. لقد فاجأوه وقتلوه مع عدد من إخوته ونهبوا الهدايا التي كانت مُرسلة إليه. لذا قررنا إرسال محلات من القبائل الصحراوية لمعاقبتهم على فعلتهم الشريرة. خرج المقاتلون، بأمرنا، مزودين بما يلزم، فهاجموا المجرمين وحاصروهم في قصورهم التي فرّغوها وأحرقوها. قتلوا أكثر من مئة، وأسروا أكثر من مئة، ليكونوا أمثلة مدوية قبل أن يعودوا منتصرين إلى تافيلالت. وهم الآن في الطريق عائدون إلينا».
«وفي الأثناء، كنا قد أعطينا الأمر لخَدَمنا، قواد توات، لشن حركة أخرى حاصرت بدورها المجرمين بعد رحيل…
الصفحة 78
… حركة الصحراء، من أجل استئصال جذور الشر بشكل كامل. نرفع هذه الوقائع إلى علمك.
«السلام، في 13 جمادى الأولى سنة 1313» (أرشيف ب.ر.ر).
نفس الحاج أحمد بن رزوگ البوخاري الذي قاد الحملة عُيّن عاملاً على توات، واحتج منذ وصوله على بناء برج فرنسي بين فورت ماكماهون والقورارة. ومن جهته، اعترض ممثل فرنسا في طنجة على هذا التعيين. كان يمكن للمرء أن يظن أن الوضع لم يتغير بعد وفاة مولاي الحسن، وأن الحكومة الجديدة تسعى إلى الترسخ في نفس الاتجاه، وأنها تواصل دسائسها في توات حتى إلى حد تعيين حاكمين اثنين لفخذين متعارضين: حامد وصفّيان، وأنها تدفع بمساعيها إلى مناطق بعيدة جدًا عن مجال نفوذها. لكن في الواقع، كان المخزن ينهك. في سنة 1897، اقترح مولاي عبد العزيز تحكيمًا دوليًا في توات. وكان ذلك علامة على أنه لم يعد يعتبر حقوقه على الواحات غير قابلة للتفويت.
ألم تكن كل طاقة مولاي الحسن قد خدمت فقط في تأجيل الحتمي؟
لقد عرف السلطان كيف يعبّئ القبائل ويوجه نشاط حتى الأكثر اضطرابًا بينها. لكن عند موته كانت التمردات تختمر في كل مكان. ولا شك أن سوء حظ المخزن في نهاية القرن التاسع عشر يكمن في أنه وجد نفسه في مواجهة القوى الأوروبية، في وقت لم يكن قد نجح بعد في تصفية وتجاوز تركات القبلية» (باسكون، المرجع نفسه، 1977، ص. 116).
أما فرنسا من جهتها فلن تتوقف عن استغلال الفتن بأفضل ما تستطيع.