تاريخ وأرشيف
أخر الأخبار

واحة توات في وثائق القرن التاسع عشر: حين كانت تعترف فرنسا وبريطانيا بسيادة المغرب على الصحراء الشرقية

في زمن تتهافت فيه بعض الأصوات على تحريف التاريخ وتشويه الحقائق الجغرافية والسيادية، تعود بنا وثيقتان نادرتان فرنسية وبريطانية إلى أواخر القرن التاسع عشر، لتضعا الأمور في نصابها، وتكشفا ما ظل يُطمر لعقود في أدراج النسيان المتعمد أو التحريف المنهجي. الوثيقة الأولى هي من الجزء الثاني للقاموس الموسوعي “Dictionnaire général de Biographie et d’Histoire” الصادر سنة 1889 في باريس عن دار نشر Delagrave، تحت إشراف المؤرخين الفرنسيين شارل ديزوبري وتيودور باشليه، وبتنسيق من أستاذ التاريخ البارز إميل دارسي.

أما الثانية، فهي خريطة جغرافية نادرة بعنوان “Marocco, Algeria and Tunis“، نُشرت خلال نفس الحقبة من طرف دار النشر البريطانية Blackie & Son Ltd، وهي واحدة من أبرز دور النشر التي كانت تُنتج أطالس جغرافية وسياسية موثوقة في القرن التاسع عشر.

في الوثيقة الفرنسية، خُصّص مدخل مفصل لـ”المغرب” ضمن تصنيف “إمبراطورية المغرب” أو Empire du Maroc، حيث تُعرض المساحة الجغرافية والسياسية للمملكة، وعدد سكانها، ومعالمها الكبرى، وامتداداتها الطبيعية والقبلية. وهنا تتجلى المعلومة الصاعقة، والمغيبة عن الكثير من الأدبيات السياسية المعاصرة:

“Superf. : 812,300 kil. carr. (avec “l’oasis du Touat)

أي: المساحة: 812,300 كيلومتر مربع (مع واحة توات).

بهذه العبارة الواضحة، وغير القابلة للتأويل، تؤكد موسوعة فرنسية مرجعية صدرت قبل احتلال فرنسا الرسمي لتوات،التي كانت محسوبة ضمن التراب المغربي، لا جغرافيا فقط، بل إداريا وسياديا.

واحة توات… تاريخ في عمق السيادة المغربية

تقع واحة توات في قلب الصحراء بين منطقتي قورارة وتيديكلت جنوب الأطلس الكبير، وهي مفترق طرق قديم بين المغرب، مالي، وتمبكتو، وتُعد من أغنى الواحات من حيث الموارد المائية والتمركز البشري والتبادل التجاري. منذ القرون الوسطى، ارتبطت هذه الواحة بسلطة المخزن المغربي ارتباطا وثيقا، وكان سكانها يدينون بالولاء للسلطان، ويؤدون الضرائب الشرعية إليه، كما كانت تُعين بها قيادات باسم السلطان، وتُرفع فيها الرايات المغربية، وتُقرأ فيها خطبة الجمعة باسمه.

وقد أكدت العديد من الرحلات والوثائق الأوروبية هذا الارتباط، من بينها كتابات الكولونيل فلاماند، والكابتن بول سوليه، بل حتى وثائق الأرشيف العسكري الفرنسي التي سبقت الاجتياح العسكري لتوات سنة 1901، تشير إلى وجود سلطة مغربية فعلية في المنطقة، ممثلة في القضاة والمقدمين والقياد المحليين المعينين من فاس.

توات في الوثائق البريطانية: الحدود التي لا تُكذب

تُظهر الخريطة البريطانية بدقة بالغة خط الحدود المغربية المرسومة بلون برتقالي يمتد جنوبا ليشمل:

-واحات توات (Touat)،

-تيديكلت (Tidikelt)،

-قورارة (Gourara)،

-ومدن مثل أدرار وتمنطيط وتسابيت وتوات الغربية وقصور الكُبير وساوا كينتا وتوات الغربي وغيرها.

الحدود الجزائرية آنذاك – تحت الإدارة الفرنسية – تُرسم بخط مختلف، يبدأ شمال شرق هذه الواحات، مما يدل بوضوح على أن فرنسا لم تكن تعتبر هذه المناطق جزءا من الجزائر الخاضعة لها آنذاك، وهو ما يُكذب سردية لاحقة حاولت طمس هوية هذه الأقاليم وربطها زيفا بالتراب الجزائري.

بل إن الأسماء الجغرافية كما تظهر في الخريطة – باستخدام لفظ “قصور” (Ksar) و”واحات” و”تمنطيط” تؤكد أنها جزء من الكيان الثقافي والسياسي المغربي المرتبط بالمخزن والقبائل التي كانت تؤدي البيعة لسلطان المغرب، وترفع رايته، وتخضع لقضاته وقياده ومقدميه.

شهادات متقاطعة… واحتلال لمناطق ذات سيادة

ما يزيد من أهمية الوثيقتين، الفرنسية والبريطانية، هو أنهما لا تصدران من مصادر محلية أو مغربية، بل من أرشيف القوة الاستعمارية نفسها التي ستمضي لاحقا في اجتياح هذه المناطق. ومع ذلك، لم تستطع فرنسا ولا بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر إنكار أن توات كانت مغربية، وأنها جزء لا يتجزأ من السيادة الترابية للمملكة.

ويعني هذا أن الاجتياح الفرنسي لتوات سنة 1901 كان فعليا غزوا لأرض ذات سيادة، تحت إدارة المخزن المغربي، وليس “ضما” لمنطقة متنازع عليها كما حاولت بعض السرديات الفرنسية تبريره لاحقا.

دروس من التاريخ: السيادة لا تسقط بالتقادم

هذه الوثائق الجغرافية ليست مجرد أوراق أو خرائط قديمة، بل شهادات دولية موثقة تؤكد أن السيادة المغربية على توات وتيديكلت وقورارة كانت معترفا بها في العواصم الأوروبية الكبرى، وتوثق ذلك بالأرقام، بالحدود، وبالوقائع. إنها تضع المجتمع الدولي والمؤرخين المعاصرين أمام مسؤولية مراجعة الكثير من المسلمات التي تكرست بفعل الاستعمار، وتفرض على الباحثين إعادة قراءة الخارطة السيادية للمغرب، انطلاقا من أرشيف العالم لا فقط من سردية الوطن.

ففي عصر يُعاد فيه طرح الأسئلة حول الشرعية والحدود والتاريخ، تبقى توات، وغيرها من الواحات التي كانت ولا تزال تتنفس من رئة المغرب التاريخي، شاهدا صامتا على أن السيادة لا تُمحى بالتقادم، وأن الوثائق تبقى أقوى من السرديات المزيفة التي تختفي حين ينطق الحق.

مقالات ذات صلة