باشينيان في إسطنبول بدعوة من أردوغان: تقدم في الحوار التركي الأرمني يفتح آفاق السلام ويحد من تأثير باريس وطهران (فيديو)

في لحظة تاريخية دبلوماسية استثنائية، وصل رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إلى إسطنبول، امس الجمعة بدعوة شخصية من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في زيارة تُعد الأولى من نوعها بهذا المستوى منذ استقلال أرمينيا عن الاتحاد السوفياتي. وبينما تمثل الخطوة تقدما ملحوظا في مسار تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة ويريفان، فإن أبعادها الإقليمية تتجاوز الثنائي التركي-الأرميني، لتطال التوازنات الدقيقة في جنوب القوقاز، وتحد من هوامش التحرك التي طالما استفادت منها كل من إيران وفرنسا.
وقد استُبقت الزيارة بلقاء لافت بين أردوغان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، مما أثار تكهنات واسعة حول احتمال رعاية تركيا لمفاوضات مباشرة بين أرمينيا وأذربيجان تمهيدا لتوقيع اتفاق سلام شامل، وهي شائعات سارعت يريفان إلى نفيها رسميا. مع ذلك، فإن توقيت اللقاءات وترتيبها السياسي لا يخلو من دلالة رمزية ورسالة واضحة: أنقرة باتت بوابة محتملة لتسوية تاريخية بين الجارين اللدودين.
تأتي هذه الزيارة الثانية لباشينيان إلى تركيا، بعد حضوره حفل تنصيب أردوغان في أنقرة عام 2023، لكنها الأولى التي تجري في إطار ثنائي بحت، ما يمنحها ثقلا دبلوماسيا خاصا، على عكس اللقاءات السابقة التي جمعت قادة أرمينيا مع نظرائهم الأتراك على هامش فعاليات دولية، أو في سياقات رياضية وشرفية لا تحمل نفس البعد السياسي.
ويؤكد أمين مجلس الأمن الأرميني، أرمين غريغوريان، أن بلاده تواصل السعي نحو تطبيع العلاقات مع تركيا وفتح الحدود المغلقة منذ عام 1993، قائلا: “هذا ليس الشكل المثالي لما كنا نأمل به، ولكننا نرصد تقدما ملموسا”. ويأتي هذا التصريح في سياق عملية تطبيع انطلقت فعليا منذ العام 2022، حيث تم التوصل حينها إلى اتفاق مبدئي لفتح الحدود البرية، إلا أن التنفيذ ظل معلقا، بسبب ربط أنقرة لهذه الخطوة بإبرام اتفاق سلام شامل بين يريفان وباكو.
في هذا السياق، أعلنت الحكومة الأرمينية في مارس الماضي استعدادها للتوقيع على مشروع اتفاقية بعنوان “إقامة السلام والعلاقات الدولية بين جمهورية أرمينيا والجمهورية الأذربيجانية”، تتضمن 17 بندا من بينها الاعتراف المتبادل بالسيادة وسحب الدعاوى الدولية، والامتناع عن الطعن في القضايا التاريخية. غير أن المشروع يواجه عراقيل عدة، أبرزها إصرار أذربيجان على تعديل الدستور الأرميني الذي لا يزال يتضمن إشارة إلى “الوحدة مع ناغورني قره باغ”، رغم أن يريفان اعترفت رسميا بسيطرة باكو الكاملة على الإقليم عقب العملية العسكرية الخاطفة التي شنتها أذربيجان في سبتمبر 2023.
التحرك التركي في هذا التوقيت يندرج ضمن رؤية أوسع تعزز موقع أنقرة كفاعل رئيسي في تسويات ما بعد الحرب في القوقاز، خصوصا في ظل تراجع الدور الروسي، وانشغال موسكو بجبهات أخرى.
ويأتي هذا الانفتاح الأرمني على تركيا ليُحرج إيران، الحليف الإقليمي التقليدي لأرمينيا، ويؤكد على تآكل نفوذها، والتي لطالما راهنت على بقاء أنقرة على هامش الملف القوقازي، مستفيدة من الانغلاق الأرمني شرقا. كما تُعد الزيارة في حد ذاتها ضربة قوية لفرنسا التي سعت طيلة عقود لاستثمار ملف “الإبادة الجماعية” للأرمن في 1915 كأداة ضغط مستدامة على أنقرة وكورقة سياسية ضد تركيا في المنابر الدولية، بل واستندت إليه في توتير علاقاتها مع تركيا ضمن سياق صراعات أوسع، من المتوسط إلى الساحل الإفريقي. فيما تُظهر أرمينيا اليوم انفتاحا واقعيا نحو جارتها الكبرى، في سياق يتجاوز ضغوط باريس ويدفع نحو حلول عملية بعيدا عن الحسابات التاريخية المؤدلجة.
إن زيارة باشينيان بدعوة أردوغان لا تعكس فقط تحولا في العلاقات بين بلدين ظلا في حالة قطيعة لثلاثة عقود، بل تمثل أيضا بداية لإعادة تشكيل هندسة إقليمية جديدة في القوقاز، تنخرط فيها تركيا كلاعب توافقي، بينما تُعاد صياغة توازنات النفوذ لصالح واقعية سياسية تتغلب على سرديات الصراع التقليدية.
في المحصلة، فإن الطريق لا يزال طويلا أمام تطبيع شامل بين أنقرة ويريفان، وقيام سلام دائم بين أرمينيا وأذربيجان، لكن ما يجري اليوم في إسطنبول قد يكون حجر الأساس لذلك المستقبل، وسط تغيرات إقليمية تفرض على الجميع إعادة النظر في تحالفاتهم، وخياراتهم، ومواقعهم على رقعة الشطرنج القوقازية.