
في مشهد يثير كثيرا من التساؤلات، استقبل رئيس الجمهورية الجزائرية، عبد المجيد تبون، وفدا رفيع المستوى من شركة شيفرون الأمريكية، إحدى أكبر شركات الوقود الأحفوري في العالم، والتي تُعد اليوم الشريك الاقتصادي الرئيسي لإسرائيل في قطاع الغاز الطبيعي.
وقد حضر اللقاء عدد من المسؤولين الجزائريين البارزين، على رأسهم بوعلام بوعلام مدير ديوان رئاسة الجمهورية، ومحمد عرقاب وزير الدولة ووزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، بالإضافة إلى رشيد حشيشي الرئيس المدير العام لشركة سوناطراك.
الوفد الأمريكي كان برئاسة أجو كوك، نائب الرئيس التنفيذي للتطوير التجاري بشركة شيفرون، والذي صرح عقب لقائه بالرئيس تبون قائلا:
“هناك اتفاق مبدئي بيننا للتفاوض وبدء العمل.”
هذا اللقاء، الذي يأتي في سياق محاولات الجزائر تعزيز استثماراتها الأجنبية في قطاع الطاقة، يفتح الباب أمام جدل واسع حول التناقضات الصارخة في السياسات الرسمية الجزائرية، خاصة في ظل الخطاب الذي تروج له السلطة بشأن مناهضتها لما تسميه بـ “التطبيع مع الكيان الصهيوني”.
شيفرون: شريك استراتيجي لإسرائيل… وشريك جديد للجزائر
شركة شيفرون لا تحتاج لتعريف طويل في الأوساط السياسية والاقتصادية؛ فهي ليست فقط أكبر منتج للغاز الطبيعي في إسرائيل، بل تحتكر أيضا تشغيل أكبر الحقول البحرية الإسرائيلية مثل “تمار” و”ليفياثان”، وتملك وتدير خط أنابيب الغاز البحري “EMG” الرابط بين إسرائيل ومصر، والذي يمر بمحاذاة شواطئ قطاع غزة.
وفي عام 2023، حققت شيفرون أكثر من 1.5 مليار دولار من بيع الغاز الإسرائيلي، معظمه إلى مصر والأردن، بينما تجاوزت المداخيل الإسرائيلية من ضرائب ورسوم الاستغلال أكثر من 820 مليون دولار، بحسب تقارير محدثة.
والأكثر إثارة للجدل هو أن شيفرون تُتهم بالمشاركة المباشرة في دعم منظومة الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلية، إذ إن الغاز الذي تستخرجه يُستخدم لتوليد الكهرباء التي تغذي القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية، فضلا عن فرض سيطرة إسرائيلية على قطاع الطاقة الفلسطيني، خاصة في غزة، عبر التدمير المتكرر للبنية التحتية وفرض الحصار البحري لحماية منصات استخراج الغاز التابعة للشركة.
تواجه شيفرون مخاطر مستمرة نتيجة النزاع العنيف في المنطقة، بما في ذلك الإغلاقات الطارئة، وتأخر التوسعات، وصعوبات تشغيلية، وتردد المستثمرين والعملاء.
فقد أغلقت شيفرون منشآتها في إسرائيل عدة مرات بين 2023 و2024. ففي أكتوبر 2023، تم إيقاف إنتاج منصة “تمار” وتعليق صادرات الغاز عبر خط أنابيب EMG لمدة تقارب ستة أسابيع بسبب مخاوف أمنية، تكررت لاحقا في أكتوبر ونوفمبر 2024.
أثرت هذه الإغلاقات على صادرات الغاز لمصر، ما سبب انقطاعا في الكهرباء هناك، ودفع المسؤولين المصريين للبحث عن بدائل.
توقفت خطط التوسع بالكامل بعد أكتوبر 2023، بما في ذلك توسيع إنتاج “ليفياثان”، وبناء خط أنابيب جديد لمصر، وتطوير إضافي لحقل “تمار”.
أعلنت شيفرون للمستثمرين أن الحرب المستمرة قد تؤثر بشكل كبير على عائداتها، مشيرة إلى أن “التأثيرات المستقبلية ” لا تزال غير مؤكدة
الجزائر… مع أو ضد التطبيع؟
اللافت في هذا التطور هو أنه يأتي في وقت يواصل فيه الخطاب الرسمي الجزائري مهاجمة الدول التي اختارت إقامة علاقات علنية مع إسرائيل، بذريعة دعم القضية الفلسطينية ورفض “التطبيع”. بل لطالما قدمت الجزائر نفسها كمدافع شرس عن الفلسطينيين في المحافل الدولية.
لكن هذا الاستقبال الرسمي الحار لأكبر ممول للطاقة الإسرائيلية، بل والمستفيد الرئيسي من الحرب والحصار المفروض على غزة، يُظهر تناقضا صارخا بين الأقوال والأفعال. فكيف يمكن لدولة ترفض التطبيع، أن تدخل في شراكة استراتيجية مع شركة متورطة في دعم الاحتلال الإسرائيلي على الصعيد الاقتصادي والعسكري والبيئي؟
شراكة محفوفة بالمخاطر
علاوة على الجانب الأخلاقي والسياسي، تُعد شيفرون شركة تحيط بها ملفات سوداء متعددة في مجال الانتهاكات البيئية وحقوق الإنسان، من تدميرها لغابات الأمازون في الإكوادور، إلى تلوث دلتا النيجر في نيجيريا، وارتباطها بتمويل الانقلابات العسكرية في ميانمار.
وقد أثارت مشاريع شيفرون الاحتجاجات في عدة دول حول العالم، وسط اتهامات بإلحاق الأذى بالسكان الأصليين، وتدمير الأنظمة البيئية، والانخراط في قضايا فساد واسعة النطاق.
وقد واجهت شيفرون العديد من الدعاوى القضائية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان ضد المجتمعات الأصلية في جميع أنحاء العالم.
في عام 2021، أظهر تحليل مستقل لـ70 دعوى قضائية ضد شيفرون أن 65٪ منها تتضمن مزاعم موثقة بانتهاكات جسيمة، مثل التعذيب، والعبودية، والاغتصاب، والقتل، وحتى الإبادة الجماعية.
بين 2005 و2024، كانت شيفرون من الشركاء في مشروع غاز “يادانا” في ميانمار، والذي ساهمت عائداته في تمويل الجرائم ضد شعب ميانمار، خاصة بعد انقلاب 2021. رغم دعوات العقوبات، مارست شيفرون ضغوطا على الحكومة الأمريكية لعدم فرضها. وأعلنت انسحابها في 2022، وتم الخروج الكامل في 2024.
كما تسببت شيفرون في تشريد حوالي 22,000 من السكان الأصليين في تشاد والكاميرون خلال بناء خط أنابيب بين عامي 2000 و2003، بسبب تلوث المياه وتدمير الأراضي الزراعية.
منذ الثمانينيات، دمرت أنشطة شيفرون أراضي السكان الأصليين في نيجيريا، ودعمت القوات المسلحة التي هجّرت المجتمعات المحلية وقتلت ناشطيهم.
وشملت عملياتها المدمرة دولا مثل: أذربيجان، أنغولا، الأرجنتين، كندا، الصين، تيمور الشرقية، الإكوادور، غانا، إندونيسيا، كازاخستان، بولندا، تايلاند، فنزويلا، الولايات المتحدة وغيرها
إن دخول شيفرون إلى السوق الجزائرية ليس مجرد اتفاق اقتصادي، بل هو قرار سياسي يحمل دلالات عميقة. فبينما يواصل النظام الجزائري تسويق خطابه المناهض للتطبيع، فإن احتضانه لشركة تُعتبر عصب الطاقة لإسرائيل يطرح سؤالا جادا حول مصداقية هذا الخطاب، ومدى استعداد الجزائر لوضع مبادئها المعلنة موضع التنفيذ، لا أن تبقى حبيسة الشعارات.
فهل ستدفع هذه الصفقة الجزائر إلى إعادة النظر في نهجها السياسي الخارجي؟ أم أن منطق المصالح الاقتصادية سيتغلب، مرة أخرى، على كل الاعتبارات الأخلاقية والسيادية؟