الزاوية التيجانية بعين ماضي بالأغواط: وثيقة فرنسية تاريخية تثبت ولاء الطريقة لسلاطين المغرب بدلًا من العثمانيين

في زمن تتكاثر فيه محاولات طمس الحقائق التاريخية والسيادية لمناطق الصحراء الكبرى، تعود بنا وثيقة فرنسية نادرة من سنة 1877 إلى حقيقة ثابتة تتحدى السرديات الخاطئة والقراءات الإيديولوجية الحديثة.
الوثيقة، التي نُشرت ضمن مؤلف الرحالة الفرنسي بول سولييه “L’Afrique Occidentale – Algérie, Mzab, Tidikelt”، تسلط الضوء على شخصية روحية بارزة في تاريخ الإسلام بشمال افريقيا، هو سيدي أحمد التيجاني، مؤسس الطريقة التيجانية، وتكشف عن انتمائه السياسي والروحي إلى الإمبراطورية المغربية الشريفة، لا إلى الحكم العثماني في الجزائر كما يُروج له في بعض الأدبيات الرسمية الجزائرية.
الفقرة المحورية من الكتاب تُقر بوضوح أن سيدي أحمد التيجاني لم يكن يعترف بسلطة الأتراك العثمانيين في الجزائر، رغم أنه كان، لأسباب عملية، يقبل بدفع جزية خفيفة لحكام الجزائر آنذاك. لكن الأهم، وفق ما ورد نصا، هو أنه “كان يعتبر نفسه دائما من رعايا أباطرة المغرب”. هذا الولاء لم يكن مجرد انتماء وجداني أو رمزي، بل كان تأكيدا على العلاقة السيادية بين الزاوية التيجانية، الواقعة في عين ماضي بالأغواط، وبين العرش العلوي المغربي، الذي كانت سلطته تمتد عبر الصحراء إلى تخوم السودان الغربي.
ويُشير المؤلف إلى أن شرفاء فاس، بصفتهم النسب الشريف، هم “الملوك الشرعيون للمسلمين من أتباع المذهب المالكي”، الذي كان يتبعه سيدي أحمد التيجاني، تماما كجميع المسلمين في الصحراء. وهذه العبارة المفتاحية تدحض بوضوح أي إدعاء عثماني بالسيادة الروحية أو السياسية على المنطقة، وتؤكد أن المرجعية الدينية والسياسية للمنطقة كانت مغربية خالصة.
سيدي أحمد التيجاني… من أصول عبدية ومدفون بفاس
ولعل ما يعزز هذا المعطى التاريخي هو سيرة سيدي أحمد التيجاني نفسه. فقد ولد العالم الصوفي بقرية عين ماضي بالاغواط 1150 هـ / 1737م، وينحدر من قبيلة عبدة المغربية، قرب مدينة آسفي، وهي قبيلة عرفت بولائها التقليدي للمخزن المغربي. وقد اختار لاحقا مدينة فاس ليكون فيها مرقده الأخير، وتوفي بها عام 1230 للهجرة عام 1815 ودفن بزاويته بالحومة المعروفة بالبليدة من محروسة فاس، دافعا بذلك بجذوره الروحية إلى قلب العاصمة العلمية والروحية للمملكة.
فاس لم تكن مجرد مكان دفن، بل كانت المركز المعرفي الذي احتضن الطريقة التيجانية، ومنه انتشرت نحو إفريقيا جنوب الصحراء، لتصنع واحدة من أهم الحركات الصوفية في العالم الإسلامي. هذا الامتداد من عين ماضي إلى فاس ثم إلى إفريقيا، يرسم خارطة روحية-سياسية تحت السيادة المغربية، لم تنكسر رغم التوغلات العثمانية ولا الحدود الاستعمارية التي رسمتها فرنسا لاحقا.
عين ماضي… بين النفوذ التركي والبيعة المغربية
في زمن الدولة العثمانية، لم تكن عين ماضي خاضعة فعليا لسلطة الباب العالي، بل كانت تخضع للزاوية التيجانية المستقلة في تدبير شؤونها، مع ارتباط مباشر بالعرش المغربي. وقد كان هذا الاستقلال مصدر قلق مستمر للحكام العثمانيين في الجزائر، الذين، حسب نفس الوثيقة، كانوا يخشون تصاعد نفوذ الطريقة التيجانية، وقرروا سنة 1790 إرسال جيش كبير لمحاصرة المدينة ومحاولة تحجيم سلطانها الديني والسياسي.
غير أن الرواية الشعبية التي نقلها سولييه من أفواه أعيان المدينة آنذاك، تُظهر أن الأتراك، رغم عددهم الكبير، لم يرهبوا سكان عين ماضي، الذين ظلوا صامدين أمام محاولات فرض الهيمنة عليهم. هذا الصمود لم يكن فقط من منطلق روحي، بل كان تعبيرا عن هوية سياسية متجذرة في بيعة المغرب الشريف، وهو ما يؤكده اليوم التاريخ الصوفي والسياسي للمنطقة.
إن وثيقة بول سولييه ليست مجرد نص استشراقي من القرن التاسع عشر، بل هي شهادة موثقة من صلب أرشيف الاستعمار نفسه على وحدة السيادة المغربية عبر الصحراء الكبرى، من فاس إلى تيديكلت، مرورا بعين ماضي. في زمن تتقاذفه الدعاوى السياسية والمناورات الجيوسياسية، يبقى التاريخ حين يُقرأ من مصادره الأصلية أصدق دليل على الامتداد المغربي للصحراء والولاء والبيعة الذي لم تنل منه الحدود المصطنعة.
إن سيدي أحمد التيجاني، بما له من رمزية دينية وعمق اجتماعي في شمال وغرب إفريقيا، لم يكن فقط ابن عين ماضي، بل ابن للإمبراطورية المغربية، وحامل لواء من ألويته الروحية، وما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءة هذه الصفحات المنسية، لتفنيد زيف السرديات المفبركة وإعادة الاعتبار للتاريخ في خدمة الحقيقة.