
لم تعد أدوات التجسس حكرا على الكاميرات المخفية أو الأقمار الصناعية العملاقة. التقنية اليوم تسير نحو تصغير كل شيء، حتى بات بالإمكان إخفاء جهاز طيران متطور على طرف إصبع. أحدث ما كشف عنه مؤخرا هي طائرة تجسس مصغرة بحجم بعوضة، طورتها جامعة الدفاع الوطني الصينية، وتتمتع بقدرات استثنائية في الرصد والتسلل والتخفي.
هذه الطائرة، التي لا يتجاوز طولها سنتيمترين، تمتلك سرعة خيالية تبلغ 300 ميل في الساعة، وتعمل ضمن أسراب منسقة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، كما أنها قادرة على التسلل إلى أماكن مغلقة دون أن تُكتشف، مما يجعلها مرشحة لتكون أداة التجسس الأكثر فعالية في تاريخ الحروب الصامتة.
من جناح الحشرة إلى جناح الاستخبارات
تُشبه في مظهرها حشرة عادية، لكن وظائفها تتجاوز ما تخيلته عقول رواد الجاسوسية. هذه الطائرة الميكروية مزودة بكاميرات دقيقة، ميكروفونات شديدة الحساسية، وأجهزة لاقطة للإشارات الإلكترونية، وكلها مجتمعة ضمن هيكل لا يُرى بالعين المجردة من مسافة قريبة.
تعمل هذه الآلة بصمت، تطير داخل الغرف والممرات، وتبث الصور والبيانات مباشرة إلى مشغليها عبر اتصال مشفر. ويكمن سر خطورتها في أنها غير قابلة للرصد عبر أنظمة الرادار أو أجهزة الإنذار التقليدية.
سباق خفي على التفوق التكنولوجي
ليست الصين وحدها من يسير في هذا الاتجاه. الولايات المتحدة الأمريكية عبر وكالة “DARPA”، تعمل منذ سنوات على مشروع “Perdix”، الذي يعتمد على أسراب من الطائرات الصغيرة تنسق حركتها بشكل جماعي، وتؤدي مهاما استطلاعية واستخباراتية ذاتية.
وتسير دول مثل روسيا وإسرائيل وفرنسا في خطى مماثلة، حيث بات تطوير الطائرات المصغرة جزءا من سباق تسلح جديد، لا يتعلق بعدد الطائرات أو مدى الصواريخ، بل بحجم الحشرة ودقة العدسة.
أخطار تتجاوز الحرب
رغم الإعجاب الهندسي المذهل، تُثير هذه الطائرات المصغرة أسئلة أمنية خطيرة. هل يمكن أن تستخدمها جهات غير حكومية؟ هل تُصبح وسيلة لتجسس على الخصوم السياسيين؟ أو ربما أداة لابتزاز شخصيات عامة؟
ما يزيد من خطورتها هو صعوبة تعقبها أو كشفها، مما يجعلها مثالية لعمليات التجسس داخل المنازل والمقار الحساسة، وربما حتى لزرع أجهزة أو تنفيذ اغتيالات دون ترك أي أثر مادي.
ما بعد البعوضة: الحروب بلا جيوش
تحول الحروب اليوم إلى ساحة صامتة لا تُدار فيها المعارك بالمدافع، بل بالبرمجيات والطائرات الخفية. والبعوضة الإلكترونية ليست مجرد أداة مراقبة، بل مقدمة لتكنولوجيا هجومية جديدة، قد تُستخدم يوما ما في تعطيل أنظمة إلكترونية، أو في تنفيذ هجمات دقيقة داخل عمق العدو.
الطائرات الميكروية تغير وجه العالم الأمني. إنها تجسيد حقيقي لفكرة “العدو الذي لا يُرى”، وربما أيضا أول إرهاصات لعصر تفقد فيه الجدران قدرتها على حماية الأسرار.
وإن كانت الحروب التقليدية تُخاض بالجيوش، فإن حروب الغد تُخاض بـ”حشرة”، تطير… وتُسجل… وتختفي.