إن صالح سنة 1891: دليل تاريخي على مغربية الصحراء الشرقية في وجه الأطماع الاستعمارية

حادثة إن صالح يوم 8 سبتمبر 1891 ليست مجرد واقعة عابرة في تاريخ الصحراء الكبرى، بل شهادة دامغة على الارتباط العضوي لتلك الربوع بالمغرب، وعلى مقاومة أهلها لأي محاولة لطمس البيعة الشرعية للعرش العلوي. هذه الحادثة، التينشرت تفاصيلها الصحافة الفرنسية وعلى رأسها Le Petit Journal في 24 أكتوبر 1891، جسدت لحظة مواجهة بينمشروع استعماري فرنسي يسعى إلى بسط نفوذه على طرق القوافل، وإرادة سكان المنطقة في الحفاظ على هويتهم المغربية.
خلفية التوسع الفرنسي
منذ احتلال الجزائر سنة 1830، ركزت فرنسا جهودها على فتح “الطريق الصحراوي” الرابط بين شمال إفريقيا ومستعمراتهافي إفريقيا الغربية. وكانت واحات توات وتيديكلت وإن صالح مركزا تجاريا استراتيجيا وممرا حيويا نحو بحيرة تشاد ونيجيريا. لكن هذه الواحات، تاريخيا، كانت تدين بالبيعة والولاء لسلاطين المغرب وتعتبر نفسها جزءا لا يتجزأ من المخزن المغربي.
المبعوث الفرنسي ورفض السكان
في صيف 1891، أرسلت فرنسا مبعوثا يدعى بن ميمَر سْيا (Ben Memmer Sya) إلى إن صالح، في مهمة تهدف لإقناعالسكان بالتخلي عن ولائهم لسلطان المغرب المولى الحسن الأول مقابل حماية فرنسية وامتيازات تجارية. غير أن الأهالي،بقيادة العلماء وشيوخ الزوايا، اعتبروا الأمر محاولة مكشوفة لفرض الاستعمار، فرفضوا العرض وواجهوا مبعوث باريسبالرفض القاطع.
يوم 8 سبتمبر 1891: الانتفاضة
تحول الاجتماع العام مع المبعوث الفرنسي إلى مواجهة دامية انتهت بقتل بن ميمَر سْيا رفقة نحو ثلاثين شخصا من أنصارفرنسا. بالنسبة لأهالي إن صالح، لم يكن الأمر سوى دفاع مشروع عن البيعة للسلطان المغربي في وجه مشروع استعماري دخيل.
صدى الحادث في فرنسا
في عددها الصادر يوم 24 أكتوبر 1891، خصصت صحيفة Le Petit Journal غلافها للحديث عن الحادث تحت عنوان:
“Les affaires du Maroc – Assassinat d’un ami de la France” (قضايا المغرب – اغتيال صديق فرنسا).
واللافت أن الجريدة نفسها وصفت الموقع صراحة بأنه في “المغرب” (Maroc)، وهو دليل تاريخي مكتوب من مصادرفرنسية على أن إن صالح كانت آنذاك جزءا من الامبراطورية المغربية.
النص الفرنسي الأصلي (Le Petit Journal, 24 أكتوبر 1891):
Trente individus soupçonnés d’être partisans des Français ont également été tués.
Rouba-Macksran a pu gagner Mondyir. On croit qu’il se rendra à Alger pour mettre ses biens et son oasis sous la protection de la France.
La route d’Algérie est gardée pour éviter le passage d’émissaires ou d’amis de la France qui tenteraient de mettre celle-ci au courant de la situation et réclameraient son intervention.
Les habitants des autres oasis refusent de suivre ceux d’In-Salah et ne veulent pas recevoir les Marocains.
On craint des troubles.
S’il s’agissait d’un simple différend entre Arabes, la chose serait peu importante, les Ontaux ont l’assassinat facile, et chez eux le kandjar sort fréquemment de sa gaine.
Mais Ben-Memmer-Sya a été assassiné comme ami de la France et parce qu’il tendait à maintenir l’indépendance du Touat, indépendance garantie par les traités et menacée aujourd’hui par les Marocains.
Or il est de toute nécessité pour nous que le Touat soit libre, c’est la route du lac Tchad où se feront dans l’avenir de grandes transactions commerciales.
De plus, et c’est là le point culminant, si le Touat nous est fermé, les communications sont interrompues entre nos différentes possessions d’Afrique.
C’est là ce que nous ne pouvons tolérer.
Ajoutons que le meurtre de notre ami est une insulte que nous ne saurions supporter sans en demander compte, sous peine de perdre notre prestige et de nous exposer à des insuccès graves et plus préjudiciables.
Une intervention vigoureuse s’impose. Ce serait peu de chose si nous avions affaire seulement au Maroc.
Mais In-Salah est-il seul, et s’il ne l’est pas, qui est avec lui ? voilà la question.
الترجمة العربية الحرفية:
قُتل أيضًا ثلاثون فردًا يُشتبه في كونهم أنصارًا للفرنسيين.
استطاع روحا-ماكسران أن يبلغ منديير. ويُعتقد أنه سيتوجه إلى الجزائر ليضع أملاكه وواحته تحت حماية فرنسا.
إن طريق الجزائر مراقَب لمنع مرور المرسلين أو أصدقاء فرنسا الذين قد يحاولون إطلاعها على الوضع والمطالبة بتدخلها.
إن سكان الواحات الأخرى يرفضون أن يتبعوا أولئك في إن صالح ولا يريدون استقبال المغاربة.
يُخشى من حدوث اضطرابات.
لو كان الأمر مجرد خلاف بسيط بين العرب، لكانت المسألة قليلة الأهمية، فالأونطاو (Ontaux) عندهم الاغتيال سهل، والسيف القصير (الخنجر/الكندجار) يخرج من غمده عندهم كثيرا.
لكن “بن ميمَر سيا” قد اغتيل كصديق لفرنسا ولأنه كان يسعى إلى الحفاظ على استقلال توات، استقلال مضمون بالمعاهدات، ومهدد اليوم من طرف المغاربة.
ومن الضرورة المطلقة بالنسبة لنا أن يبقى توات حرا، فهو طريق بحيرة تشاد حيث ستجري في المستقبل معاملات تجارية كبرى.
ثم، وهذا هو النقطة الأساسية، إذا أُغلِق توات في وجوهنا، فإن الاتصالات تُقطع بين ممتلكاتنا المختلفة في إفريقيا.
هذا ما لا يمكننا أن نتسامح معه.
نضيف أن مقتل صديقنا يشكل إهانة لا يمكننا أن نحتملها دون أن نطلب الحساب، وإلا فإننا نخاطر بأن نفقد هيبتنا ونعرض أنفسنا لإخفاقات جسيمة وأكثر ضررا.
إن تدخلا قويا يَفرض نفسه. كان يمكن أن يكون الأمر أقل أهمية لو كانت المسألة مع المغرب وحده.
ولكن هل إن صالح وحدها؟ وإن لم تكن كذلك، فمن معها؟ هذه هي المسألة.
مغربية إن صالح: البيعة والشرعية
–سكان إن صالح وتوات كانوا يخاطبون المخزن، ويؤدون الضرائب، ويجددون البيعة الشرعية لسلاطين المغرب.
–الوثائق المخزنية والمراسلات التاريخية تثبت هذا الارتباط.
–حتى المصادر الفرنسية، ومنها Le Petit Journal، تعترف ضمنيا بأن المنطقة كانت مغربية قبل أن تتحول لاحقاً إلى ساحةصراع استعماري دموي.
ما بعد الحادثة
الحادثة منحت فرنسا ذريعة لتصعيد تدخلها العسكري في الصحراء، فأطلقت بين 1899 و1901 حملات انتهت باحتلال إنصالح وتوات وتيديكلت. ومع ذلك ظلت ذكرى انتفاضة 1891 شاهدا على مقاومة المغاربة للاستعمار وعلى رفضهم التفريطفي سيادتهم.
إن حادثة إن صالح 1891 ليست فقط واقعة تاريخية، بل دليل دامغ على مغربية تلك الربوع، وعلى تمسك سكانها ببيعتهمللعرش العلوي في وجه كل المحاولات الاستعمارية. وما ورد في المصادر الفرنسية ذاتها من وصف إن صالح بأنها جزء من“المغرب” يكفي لإسقاط كل الادعاءات اللاحقة التي حاولت طمس هذا البعد التاريخي. إنها صفحة مشرقة من تاريخالمقاومة المغربية في عمق الصحراء الكبرى.